مخرجون استهوتهم قبعة راعي البقر

أميركا كما تراها عدسة الأوروبيين

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

دأب المخرج الإيطالي الأصل والمقيم في الولايات المتحدة الأميركية سيرجي ليوني على إخراج فيلمه «ذات مرة في أميركا»، وهو معروف بإخراجه لأفلام «رعاه البقر» ـ الكوبوي ـ لكنه عزف هذه المرة عن صنع هذه الأفلام واتجه إلى الأفلام الاجتماعية ـ الروائية. ولكن المنتجين هناك طلبوا منه أن يخرج فيلما من نمط رعاة البقر، قبل أن يقدم على تصوير فيلمه الأخير، فوافق المخرج، وصور فيلمه الشهير «ذات مرة في الغرب»، ولكي يخرج فيلمه كان لابد من شراء حقوق رواية "هاري. كري".

واجه سيرجي ليوني مشكلات عديدة في الحصول على حقوق شراء تلك الرواية، إذ كان قد اشتراها قبله مخرج تلفزيوني أميركي يدعى دان كيرتس الذي أنجز فيلم «رياح الحرب» للتلفزيون.

لذا اضطر المخرج أن ينتظر ثلاثة أعوام، وخاصة في مناقشاته مع المنتج الايطالي البرتو كريمالدي الذي كون ثروته من افلام سيرجي ليوني وخصوصاً افلام رعاة البقر، وقد موّل المنتج المذكور عدداً من المخرجين امثال بازوليني، فيلليني، وبيرتولوتشي.

 

رحلة سيناريو

بعد ذلك استطاع منتج أميركي شاب ان يتدخل في الموضوع وأن يحصل على شراء حقوق الرواية الا ان المخرج الإيطالي لم يتوقف طوال عشرة اعوام من كتابة السيناريو. وقد عمل المخرج مع السيناريست كيم ارشالي صاحب سيناريو فيلم «التانغو الأخير» ومن بعدها اضطر للعمل مع سينارست آخر وهو ليوناردو بينغينوتي، وبيرو دي بيرناردي وانريكو ميديولي..

وهكذا بدأ كتابة السيناريو من جديد. يستوحي سيرجي ليوني فيلمه من سنوات العشرينيات في أميركا، ويجمع فيه كل المظاهر الشعبية للسينما الايطالية، فالفيلم يخاطب القصص التي تتعلق بالقانون والخارجة عن القانون في آن واحد. وقد بنى المخرج هذا الفيلم بناء محكما من حيث ايقاع المشاهد بحيث لا يستطيع احد من المخرجين الأميركيين فعل ذلك، خاصة وانه يجمع بين رؤيته الأروبية والأميركية في الوقت ذاته إذ يتعامل المخرج مع ثلاث مراحل: الطفولة، الشباب، والشيخوخة إلا أنه لايستعرض هذه المراحل بشكل متعاقب.

ويعتمد تكوين الفيلم بالدرجة الأولى على الارتداد إلى الماضي «الفلاش باك» هذه المراحل مختلفة سواء بأعمارها أم بموضوعاتها. واستطاع الممثل المبدع روبرت دينيرو أن يتقمص الشخصيات في عمر الثلاثين والستين في آن واحد.

لكن المخرج اضطر إلى اختزال فترة الشيخوخة وذلك لطول الفيلم الذي بلغ قرابة الاربع ساعات. سيرجي ليوني عاش جميع المراحل التي عاشها كل من الكتاب العظام أمثال همنغواي، دوس باسوس، شاندلر، وهاميت، والرواية التي اقتبس منها المخرج تتوقف عند أعوام 1930 لكن المخرج استمر في الأحداث حتى عام 1968 ليكتشف حنينه ومشاعره ازاء هذه الفترة. وهو ينظر إلى أميركا بعين أوروبية خاصة والمخرج لا يخفي إعجابه بأميركا فيعتبرها العالم بأكمله، حيث يجد فيها ايطاليا وانجلترا وألمانيا، وليس هذا الفيلم الأول من نوعه، فقد اخرج فورد كوبولا فيلم «العراب» الذي يتناول نفس الفترة الا انه اعتمد على احداث تاريخية متعاقبة، بينما لجا سيرجي ليوني إلى الأحداث المتخيلة عن تلك الفترة.

 

استعادة الذاكرة

وقد سبقه إلى ذلك مخرجون عديدون أمثال ميلوس فورمان في فيلمه «ركتايم» والمخرج الفرنسي لوي مال في فيلميه «الصغيرة» و«اتلنتك ستي». ويكمن اختلاف سيرجي ليوني في أنه وضع كل أوهامه وأحلامه وذكرياته في هذا الفيلم، دون الالتزام الحرفي بالفترة التاريخية ومعطياتها.

وهو بهذا انما يلقى اضواء جديدة لا نعرفها عن أميركا، وربما نتخيلها قد حصلت مما تفتح للمخيلة آفاقاً جديدة، ويؤكد المخرج بانه لم يصنع فيلما تاريخياً بالمعنى المتداول، وانما فيلما خياليا يتعامل مع الاحداث بحسبة عالية قادرة على الاكتشاف والتحليل.

يتتبع الفيلم حياة أربعة اصدقاء يعيشون في حي شعبي منذ طفولتهم حتى شبابهم وشيخوختهم، من خلال هذه الحياة الطويلة، يقدم لنا سيرجي ليوني فيلما عن الزمن، والذاكرة، والسينما بالذات، لأن أحداث الفيلم تخاطب نمط السينما التي كانت سائدة في العشرينيات في أميركا. والجانب الممتع في الفيلم، إضافة إلى تقنيته العالية، هو التناقضات الموجودة بين البناء التاريخي للأحداث والسمات الإسطورية في القصة وبين كثرة التفاصيل عن الطفولة وكذلك بين الاخراج ودمج عوامل غير متوقعة.

فالمخرج يروي الأحداث من خلال شخصية «نودلز»، المحور الذي تتمركز حوله أحداث الفيلم اذ يشهد كل التطورات من الطفولة حتى الشيخوخة ويشهد كذلك مقتل اصدقائه، وتحول صديقه «ماكس» إلى نائب كبير، بعد ان يغير اسمه بعد الهجوم الذي يشنه مع عصابة الأصدقاء على أحد البنوك الكبيرة.

ويعود «نودلز» إلى ذكرياته، فيلتقي بالممثلة التي احبها منذ الطفولة، لكن هذا الحب لم يتحقق ويثير اعجابنا مشهد الممثلة «ديبوران» تلعب الدور الممثلة «ايلزبت ماكوفرن»، وهي تزيل المكياج عن وجهها لنكتشف شيخوختها بعد أن رأينا شيخوخة الشخصيات الأخرى في الفيلم.

 

صورة أسطورية

السينما الأميركية بحكم ضخامة الأموال المستخدمة فيها تحاول على الدوام ان تركز صورة إسطورية للمجتمع الأميركي في سنوات العشرينيات وما بعدها وحقيقة الأمر أن أميركا كانت شأنها شأن البلدان الأخرى تعاني من مشكلات، خاصة فيما يتعلق بالأجيال الشابة، فالعصابات المنتشرة في الأحياء الأميركية والعنف السائد لم يكن الا مظهراً من مظاهر الحياة الأميركية.

 

ذكريات ومشاعر

ولكن المخرج سيرجي ليوني لم يهدف إلى إظهار هذا العنف إلا من خلال الذكريات ومشاعر الطفولة. انه تعامل مع حقبة تاريخية تعاملاً فنياً خالياً من التعقيدات..

وقد أضفى المخرج من عقليته الإيطالية، نمطاً معيناً من أسلوب المافيا على حياة الحي اليهودي في «بروكنس» أو «مافهاتن»، إلا أن الفيلم خارج عن المكان، إذ لم يحدد المخرج سمات المكان ومواصفاته المحلية وذلك على عكس المخرج ميلوس فورمان الذي أعطى نظرة سوسيولوجية ــ سياسية للمجتمع الأميركي في فيلمه «ركتايم» إن سيرجي ليوني وميلوس فورمان استطاعا أن يكشفا عن بدايات العصر، وعلى الخصوص تكوين المجتمع الأميركي بكل تناقضاته.

سيرجي ليوني لم يهدف إلى إدانة المجتمع الأميركي بل على العكس، حاول إعطاءه الصورة المتخيلة كما يراها هو وبطل الفيلم «نودلز»، إن عرض الشخصيات بهذا الشكل الممتع جعلها محببة إلى النفس، رغم قساوتها وعنفها، إنها نتيجة لكل الظروف الاجتماعية ــ السياسية التي صاغت العصر، فالمخرج بعيد عن كل التقييمات التي وقع بها المخربون الأوروبيون الذين صوروا المجتمع الأميركي بعين مغايرة لما يراها الأميركيون أنفسهم.

 

سرد سينمائي

إن عدم الالتزام بالسرد السينمائي المتعاقب يجعل المشاهد يركز على أحداث الفيلم، ويحرك مخيلته من خلال التطورات التي تطرأ على الشخصيات سواء في العمر أو السلوك، وثمة ما يثير الانتباه من خلال رؤية حياة كاملة تتطور على الشاشة منذ طفولتها وحتى شيخوختها، إنها عبارة عن التماثل الذي يكوّنه المشاهد من خلال رؤيته، والمصاعب التي يواجهها المخرج المتمثلة في اختزال المنتجين للفيلم، إذ أن طوله الحقيقي هو أربع ساعات ونصف، ويحاول المنتجون اختزاله إلى الساعتين والنصف لكي يتم عرضه في الصالات الأميركية.

ويقول المخرج في هذا الصدد بأن هذا الاختزال يدمر الفيلم لأن تركيب الفيلم لهم يعتمد على التعاقب الزمني كما هو الحال في أفلام أخرى تعاملت مع نفس الموضوع كفيلم «العراب» و«ركتايم». وقد تحول المخرج سيرجي ليوني صاحب أفلام رعاة البقر الشهيرة مثل «ذات مرة في الغرب» إلى مصاف المخرجين العمالقة بفيلمه هذا «كان ذات مرة في أميركا»، كما استطاع أن يحول الفيلم الشعبي إلى فيلم يثير المخيلة والتفكير، ويكفي انه ظل يعمل على فيلمه قرابة 12 عاماً، دون كلل أو ملل، حتى ظهور فيلمه الشيق على كافة شاشات العالم.

 

سينما رائدة

يكاد يكون ما فعله المخرجون السينمائيون الأوروبيون بعد الحرب العالمية الثانية مطابقا لما فعلوه بعد الحرب العالمية الأولى. فقد نفضوا أنقاض الحرب، وباشروا بما لديهم من موارد شحيحة وأدوات سينمائية بسيطة في إخراج أفلام تميزت بالصدق ونفاذ البصيرة والتحكم الفني للمخرجين بعيدا عن سيطرة المنتجين.

 

سينما ورواية

معظم الأفلام الأوروبية لم تستند إلى روايات أو مسرحيات معروفة، بل كانت قصصها أصلية ووليدة أفكار المخرج والكاتب اللذين تعاونا في كتابة قصة وسيناريو الفيلم. وواصل الفيلم الأوروبي بذلك تقليدا كان قد بدأ قبل الحرب العالمية الثانية.

كما أن الفيلم الأوروبي حافظ بعد الحرب على تقليد آخر اتبع قبل الحرب ويكمن في بناء الفيلم حول موضوع رئيسي أو مشكلة سيكولوجية بدلا من بنائه حول قصة. ونرى ذلك في أفلام المخرجين الإيطاليين روبرتو روسيليني وفيتوريو ديسيكا والسويدي إنجمار بيرجمان، وهي أفلام فضلت المقارنة بين السلوك الإنساني والعواطف الإنسانية، والصراعات بين الوحدة الإنسانية والشكل الاجتماعي، على أسلوب السرد السينمائي التقليدي. وجاء التركيز على الموضوع الرئيس أو المشكلة السيكولوجية في الأفلام الأوروبية منسجما مع الاتجاه السائد لفكر وأدب القرن العشرين.

 

روائع الأفلام

قدّم المخرجون الأوروبيون عددا من روائع الأفلام المتميزة التي تحتل موقعا خاصا في عالم السينما. ولعل سر النجاح الفني والفكري لهذه الأفلام هو أنها أثارت الأسئلة نفسها التي تثار عادة في أفضل روايات القرن العشرين ومسرحياته وقصائده ومقالاته الفلسفية، في بحثها عن قيم إنسانية عميقة.

 

مدارس

ارتبطت النهايات السعيدة بالأفلام الأميركية لأن المنتجين السينمائيين والمشاهدين الأميركيين دأبوا على مقاومة وصول الأفلام ذات النهايات الحزينة إلى صالات العرض الأميركية. وعند استعراض الأفلام الأميركية نجد أن الأفلام ذات النهايات غير السعيدة منها التي أنتجت قبل العام 1960 كانت نادرة، ومع ذلك فإن معظمها من الأفلام المتميزة.

ويلاحظ أن المخرجين الثلاثة الذين تجرأوا على تقديم مثل هذه الأفلام لم يلقوا ترحيبا طويلا في هوليوود وتم إبعادهم عنها في نهاية المطاف، وهم النمساوي إريك فون ستروهايم والبريطاني تشارلي تشابلين والأميركي أورسون ويلز. ومن المفارقات أن أفلام هؤلاء المخرجين الثلاثة لقيت شعبية واسعة جدا لدى المشاهدين الأميركيين أنفسهم الذين فضلوا مشاهدة الأفلام الأوروبية.

Email