مصر تصلح ما أفسدته المؤسسة الرسمية

مبادرات شعبية للثقافة في الريف

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تعد الثقافة في مصر ذات اتجاه واحد يهبط من المؤسسة الثقافية الرسمية إلى الشعب، كما لم تعد ذات اتجاهين هابط وصاعد، لكنها أصبحت متعددة الأقطاب والدوائر التي تؤثر في بعضها البعض، كما فقدت مركزيتها القاهرية، وأصبحت قادرة على التواجد الذاتي دون سند أو دعم في العديد من المحافظات، والقرى.

يبدو هذا واضحا في العديد من المبادرات، والجماعات، والمشاريع، والفرق، والأفكار التي ظهرت حديثًا ويجمع بينها خيط واحد هو الرغبة في نشر الثقافة والقضاء على الفكرة السائدة بشأن اقتصار الثقافة على النخبة، والإساءة إلى سمعة الثقافة باستمرار عبر إظهار المثقفين في صورة أشخاص معقدين، لا يستطيعون الاستمتاع بالحياة.

 

مساحات ثقافية

المسألة أن هناك مساحات ثقافية صغيرة آخذة في التفتح واحدة بعد أخرى داخل مدن ومحافظات مصر، فهناك في محافظة الإسكندرية، وتحديدًا في حي يدعى بجناكليس، قد لا يعرف عنه الكثيرون شيئًا، اختارت "إيزيس خليل" الفتاة ذات الـ27 ربيعًا، الشروع في مشروع ثقافي يوفر إلى أبناء المنطقة مساحة معرفة وثقافة يفتقدون وجودها في حياتهم.. تقول إيزيس: كلمة ثقافة في مصر أصبحت كفيلة بتنفير الناس منها، أصبح لدى الجميع مشكلة مع الشكل المؤسسي للثقافة، لا نفهمه ولا نريده؛ لذا بادرت مع زملاء لي بـ"الصندرة"، وهي عبارة عن مؤسسة ثقافية وفنية بدأت أولى مشروعاتها بالمركز الثقافي الشعبي في حي بالإسكندرية.

 

خارج الدائرة

وعن الصندرة تحكي إيزيس قائلة: نرفض أنا وزملائي التمويل الذي يأتي من خارج دائرتنا، حان الوقت الذي يشيّد فيه الناس مؤسساتهم الثقافية بأنفسهم، ليس مهما مساحة المكان، كما أنه من غير المهم أن نتوسع، الأهم بالنسبة لنا أن نقوم بدورنا، وأن كل يكون في قلب كل حي في مصر مساحة للثقافة الحقيقية التي تنبع من داخلنا، وليس تلك التي تفرض علينا، ولعل المميز في هذا أن أبناء المناطق الشعبية من حقهم أن يسمعوا أو يروا وجهًا ما للثقافة في المنطقة التي يسكنون فيها، ويشاركون فيها فعلا.

وإيزيس خريجة أكاديمية العلوم، وبالرغم أن تخصصها هو التجارة، إلا أنها حصلت على دبلوم في علم النفس عن المشورة النفسية، وقد شجعها ذلك على التحضير لقسم في "الصندرة" عن الاستشارات النفسية، مجانا أو بمقابل بسيط لا يتعدى الخمسة جنيهات، لكن لماذا اسم "الصندرة" بالذات؟ تجيب إيزيس معللة سر التسمية بقولها: الصندرة مكان لم يعد موجودًا في بيوتنا رغم أنه كان موجودًا منذ زمن بعيد، تجتمع فيه الأشياء الزائدة عن حاجاتنا والتي نحب الرجوع إليها من وقت لآخر لكنها أساسية.

 

حس فني

التعامل مع أطفال ليس بالأمر السهل، وخاصة إن كانت أعدادهم كبيرة، تقول عويضة: أعترف أني حازمة مع الأولاد في بيت صافية، لكني اكتشفت أني قمت ببناء أساس للالتزام والنظام معهم، أمكنني بعد ذلك أن أقوم ببناء نشاطا عليه، وثمة ميزة مهمة في الحزم مع الأطفال، وهي حسابهم المستمر لفكرة العقاب، وأقصد هنا غير البدني، العقاب بالحرمان من رحلة أو ميزة؛ أي أن نظرة العين أحيانا تكون كافية، أيضا بدأت في إرساء قواعد للعقاب والثواب، وشروط للرحلات، وبالفعل أخذتهم في أول رحلة إلى دار الأوبرا المصرية، ومتحف الفن الحديث، والمكتبة الموسيقية.

تمثل المناسبات الدينية والقومية لأطفال بيت صافية، سببا إضافيا للسعادة، فمثلا خلال شهر رمضان الفائت نظم "بيت صافية" يومًا لتعليم الأطفال عمل زينة رمضان يدويًا، كطريقة للارتقاء بالحس الفني لهم وتنمية الإبداع والابتكار والتعاون والتعلق بالمناسبات الدينية واستخدام المخلفات من أوراق وكشاكيل وإعادة تدويرها لصنع شيء نافع ومفيد.

 

مبادرات

وفي محاولة منهم للقضاء على أزمة انخفاض نسبة القراءة في مصر، حاول مجموعة من الشباب إيجاد مخرج لهذه الأزمة عبر مشروع لهم بعنوان "كتابنا"، حيث اكتشفوا أن جزءًا من أزمة القراءة يتلخص في ضيق الوقت، وعدم تعود الكثيرين على الاستمرار طويلاً في قراءة كتاب، الأمر الذي جعلهم يحولون الكتب إلى مواد مسموعة، وأن يخاطبوا جمهورهم بسؤال يقول: جربت تسمع كتاب؟ سؤال بدا غريبًا لكنه واقعي. 

 العاملون على مشروع كتابنا ما هم إلا مجموعة متطوعين قرروا تحويل الكتب إلى مادة مسموعة ومرئية أيضًا، عبر طرحها في أفلام قصيرة لا تزيد مدة الواحد منها على 7دقائق، لكنها تكون وافية للتعريف بالكتاب وإعطاء فكرة عامة عنه، وهو ما يعبرون عنه بقولهم:

"ماذا لو قرأنا لك كتبًا وتخيلنا أفكارها في صور، كتب لم يسمع بها كثيرون تغريك بقراءتها، مع ربيع الثورات نعد ببناء ثقافة تكاد أن تندثر.. كتابنا نقـــرؤه بالصور".

 

نافذة عربية

مشروع هؤلاء الشباب عبارة عن نافذة عربية تهدف إلى إثراء المحتوى العربي الفكري بمواد أدبية وفكرية من المكتبة العربية في الأساس؛ لأن نهضة الأمم لا تقوم إلا بلغاتها؛ كي لا ينقطع الأثر الثقافي العربي في الغرب، تتم ترجمة المنتجات المرئية إلى لغات مختلفة، الفيديو يكون عبارة عن تعريف بالكاتب، ومقاطع من الكتاب المراد، مقترنة برسوم وكتابة وموسيقى في الخلفية وصوت ناطق بالمحتوى، يقدم المضمون بتنويعات صوتية محترفة، ومدربة.

الفكرة التي اقترحها شباب من مدينة الإسكندرية جذبت إليهم أنظار شباب من جنسيات أخرى بدأت في معاونتهم، من جنسيات ومواقع مختلفــــة مثل الأردن، والجزائـــر، وبلجيكا، وكندا، بخلاف المتطوعين الراغبين في المشاركة والمساعدة سواء في تحضير الفيديوهات أو اقتراح الكتب، أو ضبط الصوت، تبدأ أعمارهم من الثانية والعشرين وتنتهي عند الثالثة والثلاثين، وقـــد أنجــــزوا حتى الآن خمســـة كتب مسموعة مرئية، ويحضرون الآن لإطلاق ما بين ستة إلى سبعة كتب، جميعها متاحة مجانا على موقع يوتيوب وغيرها من القنوات المجانية.

 

أنا الحكاية

"العبرة في نشر الثقافة هو نشرها بصرف النظر عن وسيلتها، فهل يكون ذلك عبر مركز ثقافي، أو مشروع أو فريق، الاختلاف ليس بكبير فالهدف واحد".. هذا ما يؤمن به فريق "أنا الحكاية" الذي يرى أن النسوية، تلك الكلمة التي أصبحت ذات سمعة سيئة في مجتمع ذكوري، ليست حكرًا على السيدات، وإنما هي قضية يدافع عنها الرجال والنساء على حد سواء، الروائية سحر الموجي، أحد مؤسسي الفريق، تقول: لا يستقيم الأمر في الفريق أن يتكون من نساء فقط، نحن مجموعة من الكتاب الرجال والكاتبات، وقد كان الرجال إضافة كبيرة بالنسبة إلينا، بما إننا ندرس الأدب، ونمارسه، نؤمن طوال الوقت أن المسألة النسوية لا تخص النساء فقط، ولنا في قاسم أمين عبرة، ولكن تشويه المصطلحات في الفترة الأخيرة تسبب في سيادة مفاهيم الرجولة الزائفة.

بدأ الفريق مع أربع كاتبات عملن في مشروع بعنوان "قالت الراوية" التابع لمؤسسة "المرأة والذاكرة" منذ عام1998، لكن العام 2009 شهد استقلال بعض عضوات المجموعة اللائي قررن العمل في "أنا الحكاية"، ليشكلن نواة المجموعة الجديدة التي تألفت من عشرين كاتبة من أعمار ومجالات معرفية مختلفة، يجمعهن العمل النسوي، لكن لم يلبثن أن انضم لهن بعض الكتاب الرجال المؤمنين بالعمل النسوي أيضا، وهم يستعدون الآن إلى عرض بعنوان "حكايات الثورة ببساطة كدا"، يشارك فيه حكاءات وحكاؤون من بينهم الكاتب خالد الخميسي والكاتب مكاوي سعيد.

 

في المرج

لم تجد الصحفية المصرية آمال عويضة وسيلة لتكريم اسم والدتها، وإيجاد مصدر ثواب متجدد لها أفضل من الثقافة، خاصة تلك الموجهة للأطفال، وغير القادرين على الحصول على قسط ولو بسيط من المعرفة، عبر بيت "الست صافية"، الذي قامت بتأسيسه في مسقط رأس والدتها، والذي تقول عنه: هو عبارة عن شقة بالمنطقة التي تنتمي إليها والدتي، خصصتها لتكون فضاء تطوعي لوجه الله، مستقل فكريًا ولا يهدف للربح، ويقوم على تنمية الإنسان والمكان فيما يتعلق بخدمة منطقة "كفر الشرفا" بمؤسسة الزكاة، في المرج الجديدة بالقاهرة، وذلك في مجالات الثقافة والفنون والتوعية بتنمية القدرات البشرية والمعرفية، عبر مساعدة الأطفال والنساء والشباب على اكتشاف أنفسهم ومجتمعاتهم بهدف تطويرها والنمو بأسرهم بما يحقق نقلة حقيقية في مجال التنمية المستدامة، وأتمنى أن ينفعنا الله بمشروعنا وينفع به المستفيدين من أنشطته التي تم البدء في تنفيذها تدريجيًا مع إجازة صيف 2011، حيث يتوجه المشروع لأطفال المنطقة في البداية، ثم نسائها، ثم شبابها.

 

حركات ومراكز

المراكز والمبادرات والحركات المذكورة سلفًا ليس وحدها التي ظهرت ونشطت في أعقاب الثورة المصرية، ففي العديد من محافظات الصعيد، والدلتا ظهرت مراكز ثقافية ومبادرات ومحاولات لتعويض النقص الذي خلفه تراجع أداء المؤسسة الثقافية الرسمية، حتى لو كان ذلك بصورة فردية، لأشخاص وجدوا أن أضعف الإيمان نشر ما تعلموه في مجالهم، مثل مجموعة من طلبة الفنون التطبيقية الذين أسسوا حركة بعنوان "ديزاينوبيا"، لنشر ثقافة التصميم والجمال، و"العمران موقف" المبادرة الفردية للمهندسة المصرية الشباب أمنية خليل التي حاولت أن تنشر الثقافة المعمارية بين البسطاء عبر النزول إلى العشوائيات ومناقشة أفكار مثل القضاء على العشوائيات، وإزالة العشش، والنقل القسري إلى المدن الجديدة، فقررت التصالح مع ما يراه الجميع مشاكل مستوطنة بطريقتها الخاصة ومن خلال مجالها، وهو المعمار.

 

توثيق

يسعى فريق "أنا الحكاية" إلى توثيق أحداث الثورة على طريقته الخاصة، تقول الموجي: الثورة في جزء منها حكايات، ولو كنا جميعا نرى أنها متعثرة على مستوى سياسي، لكن على المستوى الاجتماعي أراها تتحقق، نحن كمصريين تغيرنا، وهذه هي فكرة العرض، نحن كاتبات وكتاب من أجيال مختلفة نشتبك ونستمتع باللعب مع نصوص عظيمة وكتاب كبار هادفين طوال الوقت إلى إنتاج كتابة تتقاطع فيها الأزمنة والأفكار، نكتب وكلنا أمل أن تحفز هذه الحكايات القارئ ومشاهد عروض الحكي أن يعيد التفكير في أفكاره ومواقفه الثابتة".

Email