السفن القديمة

صناديق أسرار عائمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

السفن القديمة، الراسية بحزن على الضفاف، المتوقفة عن الحركة في كسل أبدي، نتذكرها كملعب للصغار على السواحل يدخلونها كمغارات، ويقفزون منها إلى الماء، يزورونها ويتفقدونها كجزر صغيرة وهبها الله لهم، هي مزارات المستكشفين والمغامرين والباحثين عن الأسرار أيضاً، لأن كل سفينة غارقة، ابتلعها الماء أو مازال هيكلها طافياً على السطح تحكي قصة تتجاوز الشهادة الأخيرة لربانها إلى آلاف الحكايا حولها تتناسل في الذاكرة عبر السنوات، تقترب أحيانا من الأسطورة.

علاقة الإنسان بالسفن عميقة وقديمة جداً، قدم علاقته بالبحر، نظرا لأهميتها في ركوب الماء، والخدمات العظيمة التي قدمتها له على مدى تاريخه الطويل، لذلك ظلت في ذاكرته الميتولوجية حاضرة بقوة كأداة نجاة، كسفينة نوح، كما عزز البحر حضورها، كلما استعاد الإنسان أهوال اليم وجبروت الغرق والطوفان.

 

مدن الأشباح

خلال الألف سنة الأخيرة بنى الإنسان ملايين السفن، وإذا تتبعنا سفن النصف الأخير من القرن الماضي سنجد سيطرة هائلة منها على كل منافذ الماء، البعض منها انتهت صلاحيته، لتتوقف وتتحول إلى نفايات بحرية، والبعض الآخر كان مصيره الغرق، فيما ظل البعض منها عالقا على الشاطئ، ترسو هياكله بين الماء وبين اليابسة، مشكلة مدن أشباح عائمة، نسج الصدأ خيوطه حول فولاذها المتهالك، وظل يسافحها الموج عبر السنوات وتبوح بحكاياتها لرياحه.

 

مآس زرقاء

للنفايات المعدنية المغروسة في الرمل منذ سنين تاريخ عابر، فرغم صعوبة الإبحار داخل الرمل يحمل الأثر حياة أخرى، لذلك فكل مركب أو سفينة متوقفة تمثل صندوق أسرار عائم. وكثيرا ما ترتبط الأسطورة بالمأساة والوهم بالحقيقة، فيتسع الهلع في مفاصل الرواية وتقشعر الأبدان. وأغلب السفن التي تحظى بمثل تلك الهالة السفن التي منحت للبحر قرابين، وتوقفت قمرة قيادتها إلى الأبد، بعد أن قذفت بأرواح ركابها إلى قرار اليم.

من ضمن تلك السفن الشهيرة التي رست في التاريخ على الشواطئ، وظلت مثار غرابة لفترة طويلة سفينة "ماري سيليست"، التي قادتها الرياح في عباب المحيط الأطلسي، واكتشفها بحارة في العام 1872 قرب مضيق جبل طارق بين طنجة المغربية والأراضي الإسبانية، وقد رست السفينة على أحد الشواطئ القريبة، وأثير حولها الكثير من القصص، كان سرها في غموضها، حيث يتردد أنها وجدت بحالة سليمة، فيما كانت الأغراض الشخصية لركابها في مكانها، دون أن يعثر أثر لأي شخص من الذين كانوا على متنها، وماتزال هذه السفينة التي ألهم غموضها رسامين وشعراء كبار من أكثر الألغاز البحرية غموضاً.

وفي تاريخنا الحديث ظل اليخت الفخم العائم (صنع في 1931)، يرقد لفترة طويلة على على أحد الجزر في الساحل الغربي لأميركا، وقد كان يملك اليخت المخرج الأميركي رونالد ويست، وقد استخدمه في أحد أفلامه، ولم يعرف حتى الآن سر اختفاء طاقمه، وظل فترة طويلة راسيا على الشاطئ كمزار.

 

سفن غامضة

من ضمن السفن الغامضة أيضا سفينة سفينة أوكتافيوس، التي علقت في القرن السابع عشر في الساحل الأطلسي لجنوب إفريقيا، حيث اندلعت عاصفة قوية إلا أن القبطان رفض العودة بالسفينة إلى الشاطئ وأصرّ على إكمال رحلته، وهو ما أدى في النهاية إلى وفاة كل طاقمها، ويقال إن أشباح كل من عليها لا تزال تحوم حول السفينة. وعلى ذكر الأشباح، وحكايتها الطويلة مع السفن القديمة، مازال عالقاً في الذاكرة سفينة كانصادو الشهيرة قبالة سواحل نواذيبو في شمال موريتانيا، وتختلف الروايات حولها، حيث تقترب في بعض الأحيان من الأسطورة، وينسج السكان حولها الكثير من القصص، من ضمنها أنها مسكونة بالجن، وترى أطيافهم في بعض الليالي.

ورغم نفي الدراسات الحديثة لاستيطان الأشباح لهياكل السفن القديمة، وتبرير بعضهم أن احتكاك الماء بالمجاري المائية التي تمر تحت صخور الجرانيت، والفولاذ، يولد طاقة كهرومغناطيسية تؤثر على عقول زوار هذا المراكب المهجورة، حالها كحال المباني القديمة، تجعلهم يتوهمون وجود أشباح تتبدى أمامهم كأشكال هلامية، مع حالات الهلوسة التي تنتابهم. وبغض النظر عن نفي العلم الحديث لكل تلك الحكايات فإن المخيال الشعبي يعززها، عبر مروياته، وطابع الوهم الذي يكرسه في أذهان الناس حول هذه المزارات.

 

نفايات بحرية

من ضمن السفن الراقدة في القاع سفينة "فراو ماريا" الهولندية التي غرقت قرب السواحل الهولندية وهي في طريقها الى سانت بيترسبورغ في العام 1771، وتدل السجلات أنها كانت تنقل قطعا فنية للإمبراطورة الروسية كاترين. وقد عثر على السفينة في العام 1999 الا انها لم تنتشل حتى الآن.

وفي السنوات الأخيرة، تحولت المحيطات والموانئ إلى مكبات سفن، فالسفن المهجورة تشكل نفايات بحرية حقيقية، لذلك رصدت موارد ضخمة للتخلص من آلاف الأطنان من الفولاذ المهترئ، فحرك ذلك سوقا أخرى واقتصاديات اشتغلت على هذا الأساس، ومن أشهر الكنوز البحرية التي مازالت عصية على هذه الشركات، مثلث بارمودا، فيما وقعت بعض الشبكات البحرية العملاقة التي تستثمر في المجال اتفاقيات مع دول، كتلك التي وقعت مع هايتي من أجل تخليصها من المخاطر الملاحية مقابل الحصول على كنوز السفن الغارقة والعالقة في جزرها.

وقد يصدق القول إن علبة مياه غازية صدئة قذفها الموج على الشاطئ، تلاشى اسم ماركتها التجارية تقدم وثيقة أركيولوجية حية عن حياة ما، فتاريخنا البحري الوسيط والمعاصر يحتاج إلى قراءة جديدة وإعادة تفكيك، لذلك تكثر الآن الأبحاث لمعرفة تاريخ البحار، واستكشاف مخلفات حركة الملاحة التي نشطت في القرون الخمسة الأخيرة في مختلف بحار ومحيطات العالم، حيث تكتشف في كل يوم كنوز أثرية بحرية في القاع العميق أو قرب السطح، حيث يقدر عدد السفن الغارقة بعشرات الآلاف.

«مقبرة المراكب»

أنا مركب بلا حراك

منذ زمن بعيد وأنا كذلك

فقدت ذاكرة الإبحار والمرافئ

أنا اليوم مركب ينخره الفراغ

تعلوه العناكب والموت

أعيش فقط على وطأة هذه المرساة

القاسية الثقيلة..

التي ما فتئت توثقني بعناد

إلى حمأة الأعماق

حتّى اليوم..

 

من قصيدة «مقبرة المراكب» الشاعرة الكوبية دولسي ماريا لويناس

 

السفينة «فاسا»

ظلت السفينة الحربية السويدية "فاسا" لثلاثــة قرون محفوظة في بحر البلطيق، وعندما انتشلت في العام 1961، كانت في حالة جيدة فحتى التفاصيل الدقيقة على واجهتها كانت مرئية بوضوح، مثل أنياب الأسود المنحوتة على زخرفتها الخارجية.

 

أطياف الفراغ

بقايا المراكب القديمة المهترئة، على الشاطئ المهجور، كانت دائما حاضرة في الشعر وفي ذاكرة السينما، فقد حمل المركب القديم في الشعر الحديث دلالات عدة، كما عبر عن حمولات الضياع والوحدة ورحلات العدم. لذلك تكررت الإحالات البحرية المستوحاة من هذا الفضاء في قصائد المعاصرين منهم، أثثوا بها مضامين النص، ووجدوا فيها تعبيرا مباشراً عما يختلج في نفوسهم.

Email