رائعته «قداس الموتى» أسطورة موسيقية بديعة

موزارت .. عبقرية اللحن

ت + ت - الحجم الطبيعي

طالما سمي بالطفل الأعجوبة الذي هزم بقوة روح إبداعه وإصراره، ضعف بنيته وسقم صحته نتيجة سوء طبيعة ونظام غذائه، وكذا جولاته الموسيقية الطويلة والمتعبة، منذ مراحل مبكرة في حياته.. إنه عبقرية الموسيقى العالمية، ولفغانغ أماديوس موزارت، والتي انطلق سهمها من قلب المأساة وحضنها في القرن التاسع عشر، ليستقر في صميم أيقونة مخزون التاريخ الذي يحكي عظمة المبرزين الخالدين.

 

لم تفلح كوارث أمراض القرن الـ19 في أن تحرمنا نور شمس أنارت، لاحقاً، روح الإبداع. ونسجت أروع المعزوفات الموسيقية التي لا تموت. إذ نجا موزارت من الجدري وأنواع الحمى، ولو بشق النفس. واللافت أنه عرف باستهتاره في خصوص الاهتمام بصحته. فكأنه كان يقول، وبطريقة غير مباشرة: لا وقت لدي للاهتمام بشيء هو خارج دائرة الإبداع الموسيقي، حتى ولو كان يمس صحتي.

عاش موزارت حياة عادية اختار فيها أن يقبع في محيط ونمط حياتي سمته التواضع، وملؤه الإيمان بالموهبة التي تصوغ العبقرية في جنان روح مغردة تتلقف مشهد الحياة المحيطة، وتقبع بين آلام وأفراح الناس وأتراحهم ومعايشاتهم.. وهكذا فإنه كتب الكثير من أعماله العظيمة، ليس لإثبات الذات، وإنما لتفادي الوقوع في خناق الديون.

 

متواضع وفريد

دخلت قصة كتابة موزارت : الريكويم أو قدَاس لراحة الموتى، مصاف الأساطير، لكثرة ما كتب عنها بشكل روايات وأوبرات وأفلام متعددة ومتنوعة.

وتميز موزارت، وطبقاً لشهادات من عاصروه وحكاياتهم، بأنه كان إنساناً بسيطاً وضحوكاً، وكذا متفائلاً بالحياة في أسوأ الظروف وأصعبها. ولا أظننا يمكن أن نتقبل مؤدى بعض الأحكام والأقوال التي تطلق حول مبدع الجناز: (الريكويم)، وسيد السمفونيات والأوبرات، التي تصفه أو تضعه في خانة يبدو معها كرجل ساذج أو بسيط. فهو من ترجم مكنون عظمة قيمة فكره وفلسفته، ثقافة وموسيقى، فمن يقرأ رسائله إلى والده وأخته، من العواصم التي كان يزورها، يستطع تلمس حقائق مهمة حول شخصيته كإنسان مرهف الأحاسيس، يمتلك فكراً راقياً وروحاً عذبة طافحة بالجمال والحكمة.

أجنحة قوامها نور الإبداع، قادت مسار تحليق موزارت، خلال طفولته وشبابه، في رحلة طويلة جميلة، سافرت به من مدينة إلى أخرى، وتنقل معها بين عواصم عديدة. فصاغ في كنف الأمكنة ووحيها، أسمى ألوان الموسيقى بسيطة التركيب التي تحاكي وتغازل عبقرية الفكر، في قالب بنيان متماسك تكلله لغة شفافة بعيدة عن التكلف والإسفاف. هكذا أراد موزارت أن يكون ويرسخ كموسيقي فذ. وربما أنه أدرك معنى وقوة تأثير مزيج هذه الحبكة الإبداعية والشخصية، والتي لا تدلل سوى على عبقرية استثنائية.

 

ز س

بدأ موزارت تأليف عمله الأوبرالي الجميل الناي السحري : ( Die zauberflote)، في شهر مارس من العام 1791، بعد إصرار زميله، المؤلف والمخرج المسرحي ايمانويل شيكاندر، والذي كان شهيرا بصيته السيئ، وعرف عنه تركيزه على دفع المال إلى المؤلفين الموسيقيين مقابل إنتاجهم مقطوعات موسيقية خاصة بأعماله. وآنذاك، وكون موزارت أراد تأليف أوبرا هي ألمانية اللغة، ولأنه أحب نص الأوبرا الألماني وأعجب به، بدأ الكتابة في هذا الصدد، متقيداً بمنهج تكثيف جهوده وأشكال مواظبته، إلا أنه لم يتمكن من إنهائها في صيف ذلك العام، جراء إصابته بحمى نتجت عن إدمانه الكحول. وهكذا بدأ موزرات، حينذاك، الحديث عن الموت بكثرة، حتى انه فاجأ المؤلف جوزيف هايدن الذي كان يعتزم السفر إلى العاصمة البريطانية لندن، بقوله: نلتقي بعضنا للمرة الأخيرة.

 

حكاية الريكويم

كان شهر يوليو من العام نفسه: 1791، حافلاً ومهماً بالنسبة لموزارت، إذ قرع بابه، في أحد أيامه، رجل مجهول الهوية، يرتدي معطفاً رمادياً قاتم اللون، ويضع قبعة عريضة بدت تغطي ملامح وجهه القاسية.

وفور ذلك، سلم إلى موزارت، رسالة غير موقعة، موجهة من أحدهم، وجد، عندما أخذ بقراءتها، أنها تتضمن بين سطورها، طلباً إليه، لتأليف قدَاس للموتى أو جناز: (requiem)، وذلك بأقصى سرعة ممكنة، ومقابل مبلغ يحدده المؤلف بنفسه. فأبلغ موزارت الرسول، قبوله العرض، ولكنه أخبره أنه لا يستطيع تحديد موعد التسليم.

وما كان منه هنا، إلا ان طلب مقدماً، خمسين قطعة نقدية، وذلك كدفعة أولية لقاء هذا العلم. ولم يتأخر ذاك الرجل الغريب، أنئذ، عن نقده المبلغ الذي أراده دفعة مبدئية، مؤكداً له، انه سيعطيه القدر نفسه عند اكتمال العمل.

ومن ثم رحل بسرعة مثل ما ظهر، من دون أن يقدم أية تفاصيل أخرى أو توضيحات. وحال ذلك، ظن موزارت أن القوى الخفية التي لطالما آمن بها هي من طلب الجناز ليكون موسيقى موته هو. إ

لا أن الأمر في الحقيقة، بعيد عن تلك الظنــون، إذ نعلم، حالياً، أن ذاك الرسول الذي زار موزارت حاملا الرسالة تلك، هو حاجب الكونت فرانز فون فالسيج، والذي كانت قد توفيت زوجته منذ مدة قصيرة، حينذاك.

فطلب الريكويـــم من مــوزارت، ولكنه ابتغى تقديمه للناس، على أنه من تأليفه هو، خصوصاً وأنه كان قد درج على شراء أعمال مؤلفين آخرين، اعتاد أن يقدمها باسمه.

بدأ ولفغانغ كتابة القسم الأول من الريكويم، باهتمام وتمعن شديدين، فعمل به مدة طويلة، على غير عادته. وكان تلميذه ومرافقه، حينها، سوسماير، والذي بقي يلازمه في غالبية الأوقات، خلال كتابته تلك المقطوعة، منكباً على تسجيل ملاحظات موزارت وإرشاداته.

ومن ثم بدأ موزارت، يملي على تلميذه، مختلف الأقسام التالية للمقطوعة، حتى وصل القسم السابع، الشهير باسم: لا كريموزا: (la crimosa). ونتبين في حقيقة الأمر، وعقب التمعن بهذا المنتج الإبداعي، أن موزارت كتب ستة عشر مقياساً فقط، أما الأقسام: من الثامن إلى الثاني عشر، فلا يخفى علينا التثبت من ان كاتبها هو سوسماير نفسه، وذلك عقب وفاة موزارت. لكنه أتم إنجاز هذه الأقسام طبقاً لأفكاره وتوجيهاته وإرشاداته.

ولا غرابة في ترجيحنا احتمال أن زوجته كونستانس، كانت على علم بهوية صاحب الطلب، ذلك لأنها أرسلت للكونت فون فالسيج، بعد سبعة أو ثمانية أسابيع، مغلفاً يوجد في داخله ذاك المنتج الموسيقي العظيم الخالد.

وكان سرور الكونت كبيراً جداً، حتى أنه كتب على ظهر المغلف بالإيطالية :ريكويم، من تأليف الكونت فالسيج: (requiem compost del conte Wallsegg)، ولكنه احتفظ بالعمل طوال سنتين، ثم قدمه في العاصمة النمساوية، فيينا، بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل موزارت، تحت عنوان: (قداس للموت) من تأليف ولفغانغ أماديوس موزارت.

يلخص المتخصصون أسباب عدم تمكن ولفغانغ أماديوس موزارت من إتمام الركويم بـ : إلحاح شيكاندر عليه لإنهاء أوبرا (الناي السحري)، طلب تلقاه من براغ لتأليف أوبرا بمناسبة تولي ليوبولد الثاني الملكية على بوهيميا (سافر اليها برفقة زوجته ومساعده سوسماير لكتابة أوبرا تيتوس، التي أتمها بسرعة قياسية، مع أن فكره كان مشغولاً بـ الناي السحري والقداس).

 

أوقات حزينة.. لكن حبلى بالإبداع

كان موزارت يحمل معه أوراق الريكويم، الى السرير، خلال إنجازه ذلك المؤلف الموسيقي، بفعل تدهور حالته الصحية، فكان يملي على سوسماير ملاحظاته بسرعة، ولم يكن الأخير قادراً، في أحيان كثيرة، على فهم ما يريده موزارت، بسبب ارتفاع حرارته وهذيانه، لكنه في ليلة الوداع، وبعد ذهاب طبيبه الذي نصح أهله بالصبر، كونه ليس هناك من أمل في نجاته، استيقظ وأخذ ينفخ كأنه يعزف على الترومبون.

ومن ثم طفق ينظر إلى سوسماير الذي لم يفهم ما يقصده كثيراً، سوى أن عليه استخدام الترومبون في قسم (tube mirum) ضمن المقطوعة تلك، ليكون مدخل هذا القسم، ثم أصيب ببرد وهذيان شديدين، ونام قليلاً، حتى مع صخب أصوات تضرعات زوجته وسوسماير إلى الله، لينهي آلامه، وبعد منتصف الليل بقليل، فتح عينيه بصعوبة، دون أن ينطق بأية كلمة، ثم أطلق أنفاسه الأخيرة وسلم الروح إلى بارئها.

وفي اليوم التالي، وضع في تابوت فقير جدا، لعدم وجود المال الكافي لشراء آخر ملائم.

وبسبب برودة الجو وتساقط الثلوج، أوصت زوجة موزارت عمال القبور ان يقوموا هم لوحدهم بدفنه، وخلال عملية الدفن، هبت عاصفة ثلجية قوية، وهو ما جعل عمال الدفن يرمونه في حفرة كبيرة، مع الكثير من الموتى المجهولين، وباشروا ردمها بسرعة. وفي اليوم التالي كانت العاصفة قد أزالت آثار الردم، فضاع المكان الذي دفن فيه. ولكن عبقرياً كموزارت ليس بحاجة إلى نصب تذكاري ليخلده.

 

سمات فريدة

كُتب الريكويم لأربعة أدوار منفردة، بمرافقة جوقة مختلطة، أما الأدوار المنفردة فهي: اثنان نسائيان (السوبرانو، الآلتو)، اثنان للرجال (التينور، الباص)، بالإضافة إلى أوركسترا صغيرة من الآلات النفخية والوترية. ويتألف القداس: الريكويم، من عدة أقسام، وهو يبدأ بمقدمة، ثم: (ارحمنا يا رب) للكورال، وسوبرانو منفرد، و(يوم القيامــــة). ومن ثم تظهر بعدها آلة الترومبون في (ليصدح بوق القيامة)، ويعيد مغني الباص ما بدأه الترومبون. وفي نهاية هذا المقطع تغني الجوقـــــة، طالبة العون من الله: إله الملك الجبار. ثم يغني المغنون المنفردون: (الغفران).

وأما مقطع (عذاب الخاطئين)، فأسنده موزارت إلى الجوقة. وكذلك فعل في المقطع الشهير (البكائية )، وبعدها تتابع الجوقة مع المغنين، طلب العون في مقطع (يسوع المسيح).

وأما مقطع (التقديس)، الذي تقدمه الجوقة، فهو بمثابة تقديم لمقطع (المباركة)، ثم يقدم موزارت في (حمل الرب)، موسيقى متناهية الجمال. ويكون الختام العظيم، مع مغنية السوبرانو والجوقة، إذ نستطيع سماع بحث موزارت عن الضوء الخالد في (النور الأزلي).

 

«أعيش آخر أيامي»

 

مثّلت مرحلة بدايات عرض الناي السحري، وقيادة موزارت الأوبرا، وبالتوازي مع ظهور فاغنر وفييبر، بداية لنهاية موزارت الذي لم يستطع قيادة الأوبرا بعد أيام من بداية عرضها، بسبب تعبه ووهنه الشديدين، فمكث في منزله واستأنف كتابة الريكويم.. وكان يكرر قوله، آنذاك، بأنه يعيش آخر أيامه. والقداس قداسه الأخير، وهو يكتبه لنفسه وروحه، وهنا نستطيع القول إن هذا العمل كتب بروح المؤلف لا بعقله.

 

نجاح باهر

 

لم يكترث موزارت بعد سقوط أوبرا تيتوس، التي ألفها، بشكل ذريع، إذ إنه شرع فوراً، وعقب عودته الى فيينا من براغ، في التمرينات الأولية لـ الناي السحري، وهو ما أثار غضب شيكاندر الذي كان هو صاحب الطلب من موزارت بأن يتم العمل ذاك. وفي نهاية يوليو من العام الذي وقعت فيه تلك الأحداث، كان قد أنهى العمل، فقدمه تحت قيادته ونجح نجاحاً باهراً فكان هذا أول انتصار حقيقي للأوبرا الألمانية وإعلاناً عن مجيء فييبر وفاغنر.

Email