الموسيقى الفرعونية وظيفة حياتية وقيمة دينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تمثل قصص الحضارة الفرعونية وتفاصيلها، كتاباً ثرياً في طبيعة مضامين سردياته وتفاصيله الغنية بصفحات ناصعة تقص ماهيات جذور وجذوة أسس الإبداعات، في شتى مجالات العلوم والآداب لدى البشرية جمعاء. وتبرز هنا، وبشكل خاص، فنون التمثيل والرقص والموسيقى لدى الفراعنة.

والتي تمثل توليفة بريق مفردات متنوعة، لا تزال حاضرة بينة، تسطع لتنبئنا بقيمتها، في محافل ومقرات عدة في العالم، وبلغات كثيرة. وذلك طبعاً، بدءاً من مصر ومروراً بدمشق وباريس ومختلف عواصم العالم الأوروبية، ووصولاً إلى متحف الميتروبوليتتان في نيويورك بأميركا. وغيرها الكثير.

 

بريق لا يخفت سطرته مساقات الحضارة الفرعونية في مخزون العبقرية الإنسانية.. وهو معين ومنهل لا يجف، أو ينقص حتى، في إمدادنا بمعلومات نوعية، في مجالات العلم والفنون والآداب، والتي تعرفنا، بمجملها، على ما خلدته وتفردت به هذه الأمة، من بين كل الحضارات، ومن ذلك ريادتها وتميزها في مجال الموسيقى وآلاتها وبانورامية ألحانها.

هناك كتابات ومؤلفات كثيرة رصدت تاريخ ومضمون الحضارة الفرعونية، وما قدمته للبشرية. ومن أبرزها، بحوث الدكتور محمود أحمد الحفني، المتخصصة، والتي وصف فيها حياة الفراعنة ونتاجاتهم وإسهاماتهم الفكرية والمنوعة، راصداً آثارهم الإبداعية، وبشكل خاص في حقل الموسيقى والفنون.

بدايات وانطلاقة

ظهرت المدينة في التاريخ، فجأة. ومنذ أن بدأت كان لها تقاليد ونظم سياسية واجتماعية محددة.

وفي هذا الشأن، كانت مصر في أول عهدها، وبدت حينها، منقسمة إلى مديريات صغيرة، ولكن الملك مينا وحدها، فشرعت مع عهده انطلاقة حكم الأسر الفرعونية. وكان العرش في مصر القديمة وراثياً. فإذا لم يكن للملك أي ابن، كان يتسلم مقاليد الحكم، من بعده، أخوه. وشمل هذا الأمر، أيضاً، النساء. فكانت الملكة تنال من السلطة والتكريم أكثر ما ينال الملك.

 

التمثيل والرقص

ونستنتج من القراءة والبحث المعمقين في مضمون الحاضرة الفرعونية، في مصر القديمة، مدى الاهتمام بفنون الرقص والغناء والموسيقى. وبشكل لافت، الاهتمام بمهارات ومذاهب التمثيل الصامت. فقطعوا في هذا الشأن، أشواطاً مهمة.

ووصلت مستويات تطور الموسيقى بشكل بارز، درجات تميز وتفرد نوعية. وكانت الموسيقى مع فنون الرقص، لدى الفراعنة، حاضرة بشكل طاغ ضمن طقوس العبادة في بيوت الآلهة. وكان عندهم، حسب الكثير من المراجع، آلة خاصة بهذه الطقوس العبادية المفعمة بالنغمات والألحان، في نمط قالب على منوال محدد، وكانت تضبط ماهية حركات الرقص والغناء، وهي في الشكل، كحدوة الحصان، ومصنوعة من البرونز، كما أنها مستطيلة الشكل.

 

موسيقى الدولة القديمة

تدل الآلات الموسيقية التي عرفت لدى الفراعنة، في عهود مختلف الأسر الفرعونية، على أهميتها الكبيرة، فمنذ أن وجدت كانت على شكل «الصندوق» ومصنوعة من عدة قصبات، بأطوال مختلفة، حسب نغمات السلم الموسيقي. وأضاف الصانع أوتارها وفق آليات محددة، أتت معها الأوتار بالترادف والتتالي، وثبتت بأوتاد تقابل المفاتيح. وكانت تلك الخطوة الأولى التي خطتها الآلة الموسيقية في الأرض الفرعونية، ومن ثم كان يأتي دور المرأة في عزفها ورقصتها ضمن هذا العصر، إذ أتقنت العزف على العود بشكله الأول: المنحني، كما عزفت الصنج.

والتي هي الآلة الوترية الوحيدة التي تحولت في الدولة المتوسطة، إلى مجموعة آلات تستخدم في طقوس العبادة. وكانت النساء ترسل مثل العبيد، إلى البلاط الملكي، بغرض إقامة الرقصات الإيقاعية على وقع أنغام محددة، ترافقها الطبول. واعتادت النساء، خلال الضرب على الدفوف الخشبية، وضع آلات نقر خاصة في أيديهن، مصممة على شكل أيد صناعية (يد رجل).

 

تغير وقيمة

تدل الآلات الموسيقية التي عرفت في مصر القديمة، على قيمتها الفنية، حيث وجدت فرق منظمة تضم المغني إلى جانب العازف بالصنج وعازف الناي، وذلك طبقاً لما تذكره بعض الموسوعات والكتب المتخصصة. وهو ما نراه في اللوحات الأثرية التي يتضمنها متحف اللوفر في باريس. ولم نلحظ التقدم في هذا العصر بسبب غزو الهكسوس ووضع مصر السياسي، ولكن تغيرت الموسيقى في الدولة الحديثة تغيراً تاماً، حسب ما تذكره مجموعة مراجع بهذا الخصوص.

وفي مراحل لاحقة، شهد تطور الآلات الموسيقية في الحضارة الفرعونية، تعدد أنواع الصنج وكبر حجمه، ومن ثم زيدت أوتاره، وقد لعب كبير الدور بهذا الخصوص، ارتباط الموسيقى بالطقوس الدينية. وكان البارز انضواء الموسيقى في منظومة ركائز مجتمعية، تعنى بعلاقات الأفراد مع الكهنة، وذلك بغرض التبرك والخلاص. وبذا، وطبقاً لمراجع عديدة، لم تكن الموسيقى المصرية حرة، ولم يتغن بها الشباب، إلا بحسب ما يختار لهم الكهنة من الألحان الجيدة التي تطهر النفس.

ولذلك حافظت مصر على نمط معين في الأداء، وكان الموسيقيون فيها، هم الشعراء. وهؤلاء ممن لقبوا بالحكماء، إذ كانت قصائدهم عظات وأحكاماً تفصل بقضايا الشعب، وترشد وتسير شؤون الناس. وفي هذا السياق، وجدت في الحضارة الفرعونية، مدارس الفنون (رقص وتمثيل وموسيقى)، بجانب مدارس الفلك والطب والفلسفة.

وجميعها كان يعد في إطار العلوم المقدسة. وكان المصريون يجدون شبهاً كبيراً، بين الأجرام السماوية في انتظام حركتها وارتباطها ببعضها، وبين النغمات الموسيقية التي تتألف منها الألحان. فاعتادوا على ان يرمزوا لكل نغمة من النغمات السبع، بالرمز "الهيروغليفي" الذي كانوا يرمزون به لما يماثله من الكواكب. ودرجوا على الاعتقاد، ان كل ساعة من ساعات اليوم، توافق نغمة خاصة من بين تلك النغمات السبع.

 

المرأة العازفة

تعددت المعازف وأنماطها، في مصر الفرعونية، فكان معزف توت عنخ آمون الذي يعد من أشهرها، يجمع بين البوق والطبل. ولكن، وفي العموم، كانت الموسيقى عند قدماء المصريين، فناً محترماً مقدساً، يعتقدون باتصاله مع العلوم المقدسة، وخاصة الفلك منها، وقد نصبوا أكبر معبوداتهم، آلهة عليها، كما كانوا يلقبون مخترع الموسيقى بـ"ابن الأبدية".

ويصور كتاب "زوجات الفراعنة" للدكتور محمود أحمد حفني، الحياة المصرية تصويراً جميلاًَ، واصفاً حياة القصور ودور المرأة في تلك الأيام، المشهورة بالترف وبرواج الأغاني الشعبية وقصائد عازف القيثارة الأعمى. ومن أهم ما تحدث عنه الكتاب وصف أنواع الآلات الوترية التي عزفت عليها المرأة الفرعونية. وفي مقدمها: العود، المنحني القديم.

ويبين الكتاب ذاته، أنه تشكلت في مصر، حينها، فرقتا غناء، أولهما مصرية، والثانية آسيوية. كما تحدث الكتاب عن الصورة الحقيقية لحياة المرأة الفرعونية في المناسبات السياسية والتاريخية. إذ كانت تشارك برقصات تعبيرية، ضمن الأغاني الشعبية المرحة، التي تدخل السرور إلى قلب الملك. ويوضح كتاب "موسيقى المصريين"، للمؤلف عينه، أن المصريين القدماء عاشوا حياتهم في فرح دائم، حفل برواج ألوان الفنون، خلال حكم أمنفيس الثالث وزوجته الملكة تاج.

 

بحيرة المسرات

أمر الملك الفرعوني، امنفيس، بإنشاء بحيرة على ضفة النهر، سميت بحيرة المسرات لإقامة الاحتفالات. وكانت تنبعث منها، الألحان والأغاني التي ترطب الأجواء وتنعش القلوب، مع مرور المراكب التي تحمل أجمل الفتيات، وهن مزينات ومكملات بألوان الجذب الأنثوي، بينما كن يجدفن وينشدن الأغاني.. وقد دعيت لهذا الاحتفال، في إحدى المرات، 317 أمرأة آسيوية.

 

"لغة اليد"

وصف أفلاطون الموسيقى المصرية بأنها أرقى موسيقى في العالم، مشيراً إلى أنها الملائمة لتكون لحن جمهوريته الفاضلة. فاهتم فلاسفة اليونان بدراستها والكتابة عنها. وكذا اهتم علماء الغرب بوصفها بالتفصيل، وذلك طبقاً لما يبينه كتاب "موسيقى المصريين" للدكتور محمود الحفني: "إن حركة اليد في الغناء المصري القديم كانت أصل التدوين الموسيقى، لما سمي بـ (لغة اليد).. إن السهم المصري قد جمعَ البعد الصوتي الكامل ونصف البعد الصوتي".

ووجدت في مصر القديمة، فرق غناء ورقص محددة، متخصصة بعروض وفنون الرقصات والأغاني في المعابد، وذلك للعمل على خدمة شرف الآلهة. وتألفت ووجدت هذه الفرق نفسها، ضمن البيوت الملكية وبيوت الأمراء. فاستخدمت الموسيقى بهذا، للأغراض الدنيوية، إلى جانب استخدامها الأساسي في الأغراض الدينية.

وكذلك، عرفت مصر الفرعونية، رقصة النجوم، والتي تصور نظام الكون. ووصفها أفلاطون بأنها ابتهالات للتعبير عن حالة قدسية، وكان يتم عرضها في المعبد أمام الكهنة فقط، وليس أمام المشاهدين؛ وهي تعتبر فناً يشبه "الباليه". وتتمثل رقصة النجوم، في أداء مجموعة راقصات، يتحركن بأشكال ترمز إلى بروج السماء الثانية عشرة.

 

 

قدسية الموسيقى

 

شهد تطور الآلات الموسيقية في الحضارة الفرعونية، وفي مراحل لاحقة، تعدد أنواع الصنج وكبر حجمه، ومن ثم زيدت أوتاره، وقد لعب كبير الدور بهذا الخصوص، ارتباط الموسيقى بالطقوس الدينية. وكان البارز انضواء الموسيقى في منظومة ركائز مجتمعية، تعنى بعلاقات الأفراد مع الكهنة، وذلك بغرض التبرك والخلاص. وبذا، وطبقاً لمراجع عديدة، لم تكن الموسيقى المصرية حرة، ولم يتغن بها الشباب، إلا بحسب ما يختار لهم الكهنة من الألحان الجيدة التي تطهر النفس.

Email