مدارات عالمية

ساركوزي يتحدى «ديغول» ويعيد فرنسا للناتو

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أحدث قرار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بعودة فرنسا إلى القيادة العسكرية لحلف شمال ألأطلسي، والذي أعلنه منذ أيام، ردود فعل قوية على الساحتين الداخلية في فرنسا والخارجية في أوروبا والعالم.

حيث يأتي القرار بعد نحو ثلاثة وأربعين عاما من قرار الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول عام 1966 الذي أعلن فيه انسحاب بلاده من القيادة المشتركة لحلف شمال الأطلسي، إثر رفض واشنطن اقتراحا قدمته فرنسا بتشكيل قيادة بريطانية ـ أميركية ـ فرنسية مشتركة، هذا إلى جانب اعتراض ديغول على هيمنة القادة العسكريين الأميركيين على قيادة الحلف في جنوب أوروبا . وعمد ديغول إلى إغلاق القواعد الأميركية والكندية على الأراضي الفرنسية، إلا انه لم يعدل عن انتماء بلاده إلى الحلف ولم يطلب نقل مقر الحلف من باريس إلى بلجيكا. واكتفى ديغول بالتأكيد على وضع بلاده كقوة غير ملحقة بأي قوة أخرى لكنها راسخة في«العالم الحر» في مواجهة الخطر الشيوعي السوفييتي.

تبرير القرار ... ويأتي قرار ساركوزي الآن بالعودة ليطرح العديد من التساؤلات، خاصة وأن الأوضاع داخل الحلف الآن ليست على ما يرام بالمقارنة بما كانت عليه في عهد ديغول، كما أن هذه المسألة لم تطرح من قبل في عهد رؤساء فرنسا السابقين لساركوزي، وكأنها أصبحت من ثوابت السياسة الفرنسية التي لا يجوز التراجع عنها. وفي تبريره للقرار قال ساركوزي في خطاب ألقاه في المدرسة العسكرية في باريس«لقد حان الوقت لإنهاء هذا الوضع، واتخاذ القرار اللازم لأنه يشكل مصلحة لفرنسا وأوروبا. وأضاف قائلا« لا يجوز لنا أن نظل بعيدين عن مركز القرار في الحلف بينما جنودنا يشاركون في عمليات الحلف التي يقررها الآخرون، ومع دخولنا القيادة سيكون لنا موقعنا بين القيادات الحليفة الكبرى بشكل سيسمح لنا بالمشاركة في صياغة القرارات وتحديد الأهداف التي نريدها«، وقال أيضا« في نهاية هذا المسار الطويل، ستكون فرنسا أكثر قوة وتأثيرا. لماذا؟ لأن الغائبين دائما على خطأ، ولأن على فرنسا أن تشارك في القيادة، لأننا يجب أن نكون في المكان الذي تتخذ فيه القرارات، بدل أن ننتظر في الخارج حتى يبلغنا الآخرون بما يجب علينا أن نفعل«.

ما قاله ساركوزي منطقي ومقنع إلى حد كبير، لكن السؤال الذي أثاره البعض، وخاصة داخل فرنسا، ولم يجب عليه ساركوزي هو« لماذا هذا القرار الآن بالتحديد والحلف في أسوأ أحواله منذ تأسيسه ــ لقد أكد ساركوزي على أن القرار لن يمس استقلالية فرنسا بأي شكل من الأشكال، بل على العكس سيعزز استقلالها، وأكد أيضا أن فرنسا ستحافظ على قوة الردع النووية الخاصة بها ولن تسمح بالمساس بها أو تقليصها أو حتى الاطلاع عليها من أي جهة أجنبية في الحلف أو خارجه.

ترحيب بالقرار

وكان وزيرا الدفاع والخارجية الفرنسيين ايرفيه موران وبرنار كوشنير قد أعلنا تأييدهما لقرار الرئيس ساركوزي واستبعدا وجود أية تنازلات أو خسارة أي نوع من النفوذ عبر تلك الخطو. وقال موران«سنشارك متى أردنا، وبالحجم الذي نريد». أما كوشنير فأكد أن عودة فرنسا لقيادة الحلف ستعزز نفوذها وتدعم وجهة النظر الأوروبية في الحلف.

وقد رحب حلف شمال الأطلسي بإعلان فرنسا العودة إلى موقعها في قيادته العسكرية المشتركة. وقال الأمين العام للحلف ياب دي هوب شيفر«نرحب بحرارة بخيار الرئيس الفرنسي». وأضاف أن«قراره يمثل في آن واحد ذروة تقارب فرنسا المتواصل مع الحلف الاطلسي منذ 15 عاما ودفعا جديدا للعلاقات بين فرنسا والحلف قبل أسابيع من قمته المقررة في ستراسبورغ حيث سيتخذ الحلف الأطلسي قرارات استراتيجية حول مستقبله«.

كما رحبت ألمانيا بإعلان فرنسا العودة إلى القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي. وقالت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل خلال مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في برلين إنها تهنئ فرنسا على هذا القرار الذي لم يكن سهلا. وأكدت ميركل أن هذا القرار يعزز القدرات الأوروبية في التوصل إلى سياسة دفاعية وأمنية أوروبية مشتركة.

وأضاف ساركوزي عقب اجتماع مجلس الوزراء الألماني الفرنسي المشترك إن عودة فرنسا إلى قيادة الناتو تزيد من ثقل أوروبا في الحلف مؤكدا أن هذه هي خلفية القرار الفرنسي.

و في واشنطن صدر بيان عن وزارة الدفاع (البنتاغون) جاء فيه« نحن سعداء لأنه بعد 43 عاما من الغياب عادت فرنسا حيث يجب أن تكون في الهيكل القيادي للتحالف».وأضاف البيان أنه رغم أن القوات الفرنسية تقاتل بشجاعة إلى جانب الجنود الأميركيين في أفغانستان، فإن قرار ساركوزي سيقود لإعادة تكامل جهود البلدين بشكل كامل من جديد في جميع المسائل العسكرية للناتو، وأعرب البيان عن تطلع الولايات المتحدة إلى العمل مع الفرنسيين بشكل أوثق في الفترة القادمة.

المعارضون للقرار

المعارضة الفرنسية، وخاصة الحزب الاشتراكي، قابلت القرار برفض قاطع وانتقادات حادة، حيث قالت رئيسة الحزب مارتين أوبري إنه«لا شيء يبرر العودة إلى قيادة الناتو العسكرية» وعزت الخطوة إلى«ولع» ساركوزي بالولايات المتحدة، وقالت أن القرار لا حاجة أساسية إليه ولا ضرورة للتعجل في اتخاذه.

وأبدى رئيس«الحركة الديمقراطية» فرانسوا بايرو اعتراضه الشديد على القرار معبرا عن خوفه من فقدان بلاده«عنصر الحرية الذي كنا نملكه» بقرار وصفه بأنه عملية بتر تعرضت لها فرنسا. والتزم الموقف ذاته رئيس الوزراء الفرنسي السابق دومينيك دو فيلبان حيث حذر من أن فرنسا بهذا القرار«تضع نفسها في موقف صعب».

واعتبر دو فيلبان أن الرئيس ساركوزي يرتكب«خطأ» بقراره العودة إلى قيادة الحلف، وأن تغيير موقف باريس يتجاوز مجرد التدليل على مزيد الجهد لتطبيع الموقف من الناتو ليجعل فرنسا تخضع لاختبارات صعبة وربما مهينة أمام تصرفات«دولة أخرى».

وأضاف أنه رغم أن القرار في حلف شمال الأطلسي يتخذ عبر الأغلبية فإنه يدرك تماما صعوبة مقاومة ضغط الولايات المتحدة في المسائل التي ترى أن لها علاقة بأمنها، مؤكدا أنه عايش حجم الضغط الذي مارسته واشنطن على الأوروبيين في الأزمة العراقية.

فيما اعتبر المرشح السابق لانتخابات الرئاسة فرانسوا بايرو عودة فرنسا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) خيبة كبيرة وأنه لا يجب التعامل مع الخيار الذي تبناه الجنرال ديغول منذ عام 1966 بهذا القصور.

وأضاف بايرو قائلا« أنه من غير الممكن أن بلدا كبيرا مثل فرنسا يخرج من الحلف ويدخل إليه بهذه البساطة، فهذا يجعلها تتخلى عن جزء من شخصيتها وتاريخها على الصعيد الدولي والأوروبي دون أن تحقق أي مكاسب تذكر».

وأكد بايرو أن هذا الموضوع يجب أن يحسم من قبل الأغلبية الشعبية عبر استفتاء مشيرا إلى أن قرارا بهذا الحجم لا يمكن أن تتخذه السلطة السياسية بمفردها أو رئيس الدولة لوحده، بل لا بد أن يكون نابعا من الإرادة الشعبية عبر استفتاء عام لأنه تغيير جذري يمس تراث فرنسا الدبلوماسي، ومن جهة أخرى شن بايرو حملة عنيفة على ساركوزي أمام أنصار حزبه ووصفه بالأميركي الذي يريد إلحاق فرنسا بالنموذج الأميركي والليبرالية الجديدة التي لا تعني - حسب رأيه - إلا هيمنة الإنسان على الإنسان وتكويم الامتيازات للقلة من البشر على حساب الآخرين.

الاستقلال في خطر

قرار ساركوزي العودة إلى القيادة المشتركة للناتو أثار حملة انتقادات واسعة، خاصة في صفوف اليسار الفرنسي الذي طالب بأن يخضع أي قرار بهذا الخصوص لتصويت البرلمان.كما يرى المنتقدون للقرار في فرنسا أنه سيضعف ثقل فرنسا في مواجهة الولايات المتحدة ويضر بنفوذها ف؟ أفريقيا والشرق الأوسط حيث سيُنظر إليها باعتبارها تابعة لواشنطن، وهذا ما سبق أن رفضه ديجول وكل رؤساء فرنسا من بعده.

ورد وزير الدفاع الفرنسي إيرفيه مورين على الاعتراضات قائلا«أسمع من يقول إننا إذا انضممنا إلى قيادة الناتو سنعرض استقلالنا للخطر. قول مثل ذلك إما قلة نزاهة أو جهل» وذكّر بمثال ألمانيا التي كانت دائما عضوا في قيادة الحلف لكنها عارضت مع فرنسا الاجتياح الأميركي للعراق.

وقال مورين أن بلاده ستختار المهام التي تشارك فيها ومستوى القوات التي ستدفع بها وأن فرنسا اشترطت لعودتها إلى قيادة الحلف إعادة إطلاق سياسة دفاعية أوروبية، وهو ما تحقق حسب قوله بعد أن أصبح 21 من بلدان الاتحاد الأوروبي الـ 27 أعضاء في الحلف.

ما ذكرناه هو بداية المعركة وليس نهايتها، وعلى ما يبدو أن الساحة السياسية في فرنسا لن تهدأ بسبب هذا القرار الذي سيظل محل شد وجذب بين القوى السياسية على الساحة، وسيكون نقطة خلاف ومحور مزايدات في أية انتخابات رئاسية ستجرى في فرنسا في المستقبل، خاصة وأن القانون الفرنسي يبيح للرئيس اتخاذ مثل هذا القرار الإستراتيجي بدون الرجوع للبرلمان، وكما سبق أن اتخذ ديجول قرار الانسحاب، وكما اتخذ بالأمس القريب ساركوزي قرار العودة، فمن الممكن أن يأتي غدا رئيس فرنسي جديد ويتخذ قرار أخر بالانسحاب.

ولكن كل هذا الحديث مازال يعتبر سابق لأوانه، خاصة أن قرار ساركوزي بالعودة لقيادة الحلف مازال يشوبه الغموض وتحوم حوله الشكوك، خاصة في توقيت اتخاذه في الوقت الذي يعاني فيه حلف شمال الأطلسي من مشاكل داخلية كثيرة تهدد بنيانه الداخلي، ويعاني من انقسامات حادة بسبب نشاطه في أفغانستان وانقسام القوات هناك إلى جزأين، أحدهما في الشمال يرفض الدخول في القتال مع طالبان، ويضم قوات فرنسا وألمانيا وإيطاليا ودول أوروبية أخرى، وأخر في الجنوب متورط في القتال مع طالبان ويضم القوات الأميركية والبريطانية، وفي نفس التوقيت تقرر واشنطن إرسال قوات إضافية لأفغانستان.

إضاءة

أرقام بين روسيا وحلف الناتو

ــ القوة العسكرية للناتو تبلغ 5 .4 ملايين فرد، منهم 5 .3 ملايين أميركي، بينما القوة العسكرية لروسيا تبلغ 5 .2 مليون فرد.

ــ لدى الناتو 830 .56 ألف دبابة ومدرعة عسكرية، منها 425 .36 ألف لأميركا، بينما لدي روسيا 557 .25 ألف دبابة ومدرعة.

ــ لدى الناتو 641 غواصة، منها 281 غواصة أميركية، بينما لدى روسيا 454 غواصة.

ــ لدى الحلف 27 حاملة طائرات، منها 23 حاملة أميركية، بينما لدى روسيا 14 حاملة طائرات.

ــ لدى الناتو 9843 طائرة مقاتلة، منها 4719 طائرة أميركية، بينما لدى روسيا 9529 طائرة مقاتلة.

وقد وردت هذه الأرقام والإحصاءات في تقرير مركز الدراسات الإستراتيجية في باريس عام 2003 ولم تصدر بعدها أرقام أخرى، وهي تعني أن قوة روسيا العسكرية وحدها تعادل نحو 60% من قوة حلف الناتو، بينما تُشكل الولايات المتحدة الأميركية نسبة تتراوح بين 65% و70% من قوة الحلف. ومما يشار اليه هنا أن واشنطن تشترط على الدول الأعضاء الجدد في حلف الناتو أن يكون 80 % من تسليحها أميركيا، والباقي أوروبيا.

د. مغازي البدراوي

Email