مدارات مفتوحة

باتريس لومومبا.. بطل أفريقي من رموز الحرية

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

نتذكر باتريس لومومبا كواحد من رموز وأبطال الحرية في أفريقيا وفي العالم. إنه واحد من أولئك الأبطال الذين قدموا حياتهم من أجل حرية بلدانهم، في أقسى وأصعب وأشرس معركة في زمنه، الزمن الذي كانت قد بدأت فيه الحركات الوطنية التحررية تأخذ طريقها إلى انتزاع استقلال بلدانها، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهي الحقبة التي كان الاستعمار القديم يخلي مكانه لصيغ جديدة من الاستعمار الجديد. وقد كرم الاتحاد السوفييتي هذا الزعيم الوطني الأفريقي، في أعقاب استشهاده، بوضع اسمه على جامعة «الصداقة بين الشعوب» التي كانت قد أنشئت في ذلك التاريخ بالذات.

وتحولت هذه الجامعة خلال عدة عقود من وجودها إلى مركز لالتقاء الألوف من الطلاب القادمين من بلدان العالم الثالث، ليتابعوا دراساتهم في مجالات تخصصهم المتعددة، وليعودوا، بعد تخرجهم، إلى بلدانهم حاملين معهم كفاءاتهم العلمية، ليسهموا بها، قدر المستطاع، في تحقيق التقدم لبلدانهم في مجالاته كافة. لقد كان استشهاد لومومبا في ذلك التاريخ حدثاً عالمياً. إذ استثار اغتياله، بتلك الطريقة الوحشية، غضب العالم من أقصاه إلى أقصاه. وكانت لنا في لبنان مساهمتنا في ذلك الإستنكار والغضب. فنظمت مظاهرات عدة. وأقيمت احتفالات تكريم للبطل الشهيد.

وصار اسمه اسماً علماً عندنا وفي كل مكان. كنت يومذاك مسؤولاً في منظمة العاصمة بيروت للحزب الشيوعي اللبناني. وقد دعيت، من قبل قيادة حزبنا، لكي أرأس وفد المتطوعين اللبنانيين الذين كان يفترض بهم أن ينضموا إلى جيش المتطوعين الأمميين، الذين كانوا سيذهبون إلى مقاطعة ستانليفيل، التي كان جيزنغا، رفيق درب لومومبا، يقيم فيها حكومة ثورية مؤقتة. وكان يعد لهجوم عسكري على المقاطعات الأخرى وعلى العاصمة لاستعادتها من مغتصبيها.

مساعدة شعب مكافح

لقد كان اختياري من قبل قيادة الحزب للقيام بتلك المهمة مدعاة اعتزاز كبير. وكان مصدر فرح كبير إذ أحسست أنني سأكون جندياً في حركة أممية ترمي إلى مساعدة شعب مقهور مضطهد في تحرره من مستعبديه ومغتصبي حقوقه. وفي الواقع، فقد كان اسم جيزنغا، بصفته رفيق لومومبا ومكمل رسالته التحررية، مثيراً لاهتمامي واهتمام الكثيرين في بلدي وفي العالم.

وكان تشكيل ذلك الفريق من المتطوعين الأمميين، لمساعدة شعب يكافح من أجل حريته، امتداداً لتقليد قديم كانت قد أرسته الأممية الشيوعية بعد تشكيلها في عام 1919 إثر انتصار ثورة أكتوبر. والتقت هذه الأممية الشيوعية، في الدفاع عن الجمهورية الأسبانية في عام 1936، مع الأممية الاشتراكية. وتناست الأمميتان في تلك المهمة خلافاتهما وصراعاتهما القديمة.

إلا أن فرحتي بتلك المهمة لم تطل. إذ انهارت حكومة جيزنغا أمام كثرة أعدائها في الداخل، وكثرة التدخلات الخارجية. وعجزت حركة التضامن العالمية عن وقف حمام الدم في الكونغو. وعجزت عن منع موبوتو، وتشومبي، من أن يستولي كل منهما على مقاطعة أو أكثر في الكونغو، كخادمين لشركات الرأسمالية العالمية، البلجيكية والأميركية، التي كان الاستيلاء على الكونغو وعلى ثرواته هدفاً رئيساً لها، في ذلك التاريخ، وفي التاريخ الحالي، أي بعد ما يقرب من نصف قرن على استشهاد لومومبا.

ولد باتريس لومومبا في عام 1925 في ستانليفيل في المقاطعة الشرقية من الكونغو. وهو ينتمي إلى قبيلة باتيليلا، التي تشكل جزءاً من قبيلة المونغوا. وقد تابع تعليمه في الجامعات البلجيكية. وتحول إلى واحد من النخب الكونغولية المشبعة بالروح الوطنية. قاوم الاستعمار البلجيكي على رأس الحركة الوطنية التي كان قد أسسها في عام 1958. وكانت حركته تلك أقوى الحركات في الكونغو، وأكثرها وضوحاً في برنامجها. وحظي لومومبا، وحظيت حركته، بشعبية كبيرة.

مواجهة الإستعمار

وقاد مظاهرات ومواجهات مع المستعمرين البلجيك. واعتقل لمدة ستة أشهر، ثم أفرج عنه. إذ كانت المفاوضات قد بدأت في حينه للبحث في مستقبل الكونغو. فنقل من السجن بالطائرة إلى بروكسل للمشاركة في المفاوضات. ومعروف أن تلك المفاوضات انتهت في عام 1960 إلى الاتفاق على استقلال الكونغو، وإنهاء ثمانين عاماً من استعمار هذا البلد الأفريقي من قبل المستعمرين البلجيك.

أجريت في أعقاب الاتفاق على الاستقلال في عام 1960 انتخابات تشريعية. تنافس في تلك الانتخابات أكثر من مئة حزب. لكن الحركة الوطنية التي كان يقودها لومومبا هي التي حققت الانتصار في الانتخابات. وحاولت السلطات البلجيكية، التي كانت تشرف على سير الإنتخابات، إخفاء النتائج التي تبين انتصار لومومبا. إلا أن الحركة الشعبية أجبرتها على إبراز تلك النتائج كما هي. وأدى انتصار لومومبا في الانتخابات إلى تكليفه بتشكيل أول حكومة استقلالية. وكان ذلك في شهر يونيو/حزيران من ذلك العام التاريخي في الكونغو، وفي أفريقيا، العام 1960. وقام ملك بلجيكا بودوان بتسليم الحكم رسمياً إلى حكومة لومومبا الوطنية.

لكن أزمة سياسية رافقت حفل تسليم السلطات إلى الحكومة الوطنية الكونغولية. وتمثلت تلك الأزمة بالخطاب الذي ألقاه لومومبا. فقد تحدث في الخطاب عن معاناة الكونغوليين في ظل حكم البلجيكيين لبلاده. وعدد أشكال الظلم والقهر والاضطهاد التي رافقت حياة الكونغوليين. وكان خطابه ذاك بمثابة رد وطني وشعبي غاضب على الخطاب الذي كان قد ألقاه الملك بودوان الذي اعتبره الكونغوليون مسيئاً لهم ومهيناً لمشاعرهم. وقد سمي خطاب لومومبا الشهير ذاك «خطاب الدموع والدم والنار». وأدى هذا الخطاب، رغم مشروعيته، إلى غضب البلجيكيين، الغضب الذي أثار أزمة عاصفة لم تتأخر مفاعيلها بالظهور.

لم ينعم الكونغو بالاستقلال سوى أسبوعين. إذ سرعان ما بدأت حكومة لومومبا تواجه حركات تمرد عسكري في الجيش، بتحريض من البلجيكيين، وبدور مباشر من عملائهم داخل الجيش، وفي قيادة القبائل. ثم انفصلت مقاطعة كتانغا التي وضعها تشومبي تحت سيطرته. قرر لومومبا، لمواجهة تلك التمردات والحركات المرافقة لها في الشارع، دعوة الأمم المتحدة للتدخل من أجل مساعدته في تحقيق الاستقرار. فتدخلت ضده. وتخلى عنه عدد من حلفائه. وتخلى عنه رئيس الجمهورية كازافوبو، الذي بادر إلى اتخاذ قرار بإقالة حكومة لومومبا المنتخبة.

إقالة حكومة لومومبا

ورغم أن مجلس الشيوخ صوت ضد قرار إقالة الحكومة بأغلبية كبيرة فإن قرار إقالة حكومة لومومبا أخذ طريقه إلى التنفيذ. وانضمت، في تلك الظروف، مقاطعة كازائي إلى مقاطعة كتانغا، بعد إعلان انفصالها عن جمهورية الكونغو. ولم يلبث موبوتو سيسي سوكو، رئيس أركان الجيش، أن استغل تلك التطورات ليقوم بانقلاب عسكري ويستولي على السلطة. وكان ذلك الانقلاب العسكري هو أول انقلاب من نوعه يحصل في أفريقيا.

وقد دشن به موبوتو عصراً كاملاً من الانقلابات العسكرية التي عمت أفريقيا منذ ذلك التاريخ. ولم تنته فصولاً. وقد كان أول ما قام به موبوتو، بعد نجاح انقلابه، هو إلقاء القبض على لومومبا وعلى اثنين من أهم رفاقه، هما نائب رئيس مجلس الشيوخ جوزيف أوكيتو، ووزير الإعلام موريس موبولو. وسيق الثلاثة تحت التعذيب إلى مكان إعدامهم رمياً بالرصاص في مقاطعة كتانغا.

أما كيف تم اعتقال لومومبا ورفيقيه، وفي أية ظروف، وبأية وسائل، فتلك مسألة كثر الحديث عنها، وكثرت الروايات، وتعددت التفاصيل المتناقضة بشأنها. لكن الواضح هو أن مؤامرة كبيرة كانت تحاك للتخلص منه، وأن البلجيكيين كانوا قد هيأوا القبائل، لكي يكون استقلال الكونغو استقلالاً شكلياً، ولكي يكونوا قادرين، من خلال عملائهم، على الإستمرار في التحكم بمصير هذا البلد، وبثرواته، وبمستقبله، وبكل ما يتصل بشؤونه.

وكانت المخابرات الأميركية شريكة في تلك المؤامرة، ليس بالضرورة من أجل تسهيل مهمة البلجيكيين، بل من أجل التخلص، في الدرجة الأولى، من هذا الزعيم الوطني ومن حركته ومن اتجاهاته السياسية، لكي ينقضوا، بوسائلهم الخاصة، على الكونغو، ويصفوا حسابهم مع البلجيكيين. لكن المفارقة العجيبة هي أن القبعات الزرق، التابعين للأمم المتحدة، وكانوا بأكثرهم من المغاربة، هم الذين ساهموا مباشرة في إنجاح المؤامرة، وفي إلقاء القبض على لومومبا ورفيقيه.

ويشير كتاب «أسرار اغتيال باتريس لومومبا» للكاتب البلجيكي لودو دو فيته، نشرت مجلة «وجهات نظر» فصلاً منه، إلى تفاصيل مذهلة عن اليوم الأخير من حياة لومومبا، اليوم الذي تم فيه اعتقاله مع رفيقيه. فقد تعرض الثلاثة لصنوف وحشية من التعذيب منذ لحظة اعتقالهم، وخلال نقلهم بالطائرة إلى مقاطعة كتانغا، التي تم فيها إعدامهم. وتذكر تلك التفاصيل من التعذيب بالفيلم الذي يعرض لآلام السيد المسيح.

التنكيل بالزعيم الوطني

أبشع ما في قصة اليوم الأخير تلك من حياة لومومبا ما يشير إليه الكتاب الآنف الذكر حول الطريقة التي تم فيها اغتيال لومومبا، والطريقة التي أخفيت فيها آثاره مع رفيقيه. فقد جرى تقطيع الجثث كمرحلة أولى، ثم وضعت القطع في حامض الكبريت وتم تذويبها. وكان الهدف من ذلك إزالة آثار الجريمة، وإبعاد التهمة عن القوات البلجيكية وعن دورها في الجريمة منذ بداياتها حتى نهاياتها.

يذكرني ما ورد في هذا الكتاب حول مصير لومومبا بما حصل، قبل أربع سنوات من ذلك التاريخ (1959) للقائد الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو، الذي جرى تذويب جسده بحامض الكبريت لإخفاء آثاره، ولرفع المسؤولية عن جريمة اغتياله تحت التعذيب. ووضعت الجثة المذوبة في حامض الكبريت في مجارير العاصمة السورية دمشق. أما جثة لومومبا التي أصابها ما أصاب جثة فرج الله الحلو فلست أدري أين وضعها جلادو الشعب الكونغولي في ذلك التاريخ الأسود من حياة هذا البلد المعذب الذي يحمل اسم جمهورية الكونغو الديمقراطية!

وأذكر أنني، عندما كنت مسؤولاً عن العلاقة مع بلدان أفريقيا في مجلس السلم العالمي، توجهت برسالة إلى أحد رفاق لومومبا الذي كان يقيم في نيروبي داعياً إياه لحضور المؤتمر العالمي لنزع السلاح الذي عقد في موسكو في صيف عام 1962. وقد أجاب على تلك الرسالة، التي كانت موجهة إليه باسم قيادة مجلس السلم العالمي، برسالة يشكو فيها من ظلم الأجانب الذين كانوا يعبثون باستقلال شعوب أفريقيا، ومنها شعبه الكونغولي.

وكان من أطرف ما جاء في الرسالة شكواه من الإمبريالية العربية. وحين التقيت به في العام التالي في نيروبي، وعرفته بنفسي كعربي، قدم لي اعتذاراً على ما ورد في الرسالة. لكنه أفصح لي، بعد إلحاح مني، عن جوهر ما ذهب إليه في كلامه. وكان يقصد بعض التجار اللبنانيين الذين كانوا يفرطون في استغلال السود. وكان بعضهم يقيم علاقات عمل مع جهات رسمية في السلطة، ويتقاسمون معهم نتاج ذلك العمل الشرعي منه وغير الشرعي. وكان هذا الأخير الأكثر والأوسع انتشاراً. تلك هي قصة هذا القائد الوطني الأفريقي الكبير الذي يحمل اسم باتريس لومومبا.

وهي قصة لا تزال تتكرر بصيغ مختلفة منذ استشهاد لومومبا، ولم تنته فصولاً. ويطرح اليوم، أكثر من أي وقت مضى، سؤال حقيقي يتعلق بمستقبل أفريقيا. لقد حان الوقت لكي تتحرر القارة السوداء ممن يعيثون فيها فساداً وتدميراً وتفكيكاً لبلدانها وإمعاناً في تخلفها، ويثيرون فيها حروباً أهلية وقبلية، من كل الأشكال. وهؤلاء هم من أبناء القارة الذين خانوا ويخونون قضيتها. ويشكلون بعملهم المتواصل هذا أداة رخيصة لأعداء تحرر أفريقيا، المستعمرين القدامى والجدد، من كل الأجناس والأنواع.

كريم مروة

Email