بورتريه

د. نبيل الخطيب ..إعلامي من رحم المعاناة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لا أبالغ إن قلت أن د. نبيل الخطيب، رئيس تحرير الأخبار في قناة العربية، الذي يحسب له تأسيس معهد الإعلام بجامعة بيرزيت في منتصف التسعينيات، ليصبح فيما بعد من أهم المعاهد التي تفرخ الإعلاميين في فلسطين قد ولد من رحم المعاناة، فقد كانت حياته محملة بالمعاناة التي قادته لأن يكون بارزا في الإعلام. وللحديث مع الخطيب ميزة أخرى ففي ذاكرته يختزن آلاف القصص التي شاهدها وعايشها أثناء عمله الصحفي، ولذلك يعتبر نفسه محظوظا لأنه عمل مع محطة صادقة في منطقة ساخنة جدا أكسبته خبرة عالية في هذا المجال.

عاد الخطيب بروايته إلى «الدفاتر» القديمة التي تؤرخ لمرحلة مهمة من حياته، كاشفا عمق المعاناة التي واجهها في طفولته، حيث قال: «ولدت في العام 1962 بقرية «بيت ايبا» الواقعة بالقرب من مدينة نابلس الفلسطينية، فقدت والدي الذي كان يعمل مديرا للتربية والتعليم في مناطق عدة من الضفة الغربية التي كانت حينها تقع تحت الحكم الاردني وعمري ثلاث سنوات، وكان على والدتي الاعتناء بي واخوتي الستة، دخلت مدارس نابلس بعد احتلال 1967 مباشرة، وبالتالي فأنا من الجيل الاول الذي نشأ تحت الاحتلال وتأثر بمضايقاته.

كان عمري 12 عاما عندما اعتقل أخي الأكبر غسان في 1974، وهو ما أشعرني بخسارتي الثانية بعد وفاة والدي، وكان معيل الأسرة في ذلك الوقت، لذلك قررت التوجه إلى سوق العمل رغم معارضة أسرتي، وبعد خروجه إعتقل أخي الثاني الذي لا يفصلني عنه سوى عام واحد، كانت فترة الانتفاضة الأولى عام 1976 ملتهبة جدا، وبحماس الأطفال وشعورنا بوجود التزام نحو القضية كنا نشارك في المسيرات والمظاهرات، وأدى ذلك إلى اعتقالي عام 1978.

شعرت بالتناقض، فمن جهة كنت خائفا من المجهول، ومن جهة أخرى شعرت بالرجولة لأن الاحتلال يعتقلني، ونقلت من سجن نابلس إلى الخليل للتحقيق وكنت استمع فيه لصوت أنين منهك، تبين فيما بعد أنه «نادر العفولي» الذي عذب لدرجة لم يعد معها قادرا على النطق والحركة.

وقد طغى نموذجه على عقلي، اتهمني المحقق بالتحريض لصالح منظمة التحرير رغم عدم معرفتي بمعناها، وعندما سألت عنها قيل لي إنها نوع من الإعلام والدعاية، فقررت دراسة الإعلام طالما ينغص على الاحتلال، إلا أن المفهوم تغير لدي فيما بعد.

بعد الثانوية توجهت للدراسة في الخارج، وأذكر تحديدا عام 1980 إنه كان يتعين على الفلسطيني إذا أراد الحصول على تأشيرة دخول لأي دولة، الحصول على «شهادة حسن سير وسلوك» من الاحتلال، ووفق هذا المعيار لا أحد لديه شهادة حسن سلوك، وكان هناك أعداد هائلة من الفلسطينيين يريدون التعليم إما في جامعتي بيرزيت والنجاح الواقعتان تحت قمع الاحتلال أو في الخارج.

ورغم ذلك استطاعت منظمة التحرير الحصول على 1500 منحة دراسية في الاتحاد السوفييتي سابقا و1000 منحة في المعسكر الشرقي، وقدر من نصيبي منحة في مدينة مينز بإحدى الجمهوريات السوفييتية التي تعرف حاليا باسم «بلاروسيا»، لتفوقي في المدرسة، وهناك أصبحت إطلالتي على الأشياء واقعية رغم الأيدلوجية التي كانت تحكم العالم في حينه، وأدركت بعد حرب لبنان عام 1982 أن أفضل ما يمكن أن يقدم للمجتمع هو إعلام يزوده بالمعلومات ويدرك من خلاله الحقيقة.

عدت إلى فلسطين في العام 1986 بعد الانتهاء من الماجستير وكلي أمل بإيجاد عمل مناسب لي، وتقدمت للعمل بجامعة بيرزيت في العلاقات العامة كخريج جديد، التي يرأسها شخص أسطوري في العلاقات العامة هو «ألبرت أغزريان»، وقال لي: «إذا كنت لا تتقن لغات غير الروسية والعربية فلا مكان لك بيننا»، وهو ما دفعني لمواصلة الدراسة والتحدي.

حينها كانت الأوضاع الاقتصادية سيئة للغاية، وكنا جميعا في البيت عاطلون عن العمل، واستطعت إيجاد عمل في الصحافة، وعملت مراسلا لصحيفة الفجر في نابلس، واكتشفت بعد ثلاثة شهور أن الصحيفة تريدني «رجل دعاية» سياسية للحزب القائم عليها وهو ما رفضته وتوقفت عن العمل، وخشية البطالة قمت بترجمة بعض الكتب من الروسية إلى العربية،.

إلا أنني سرعان ما عدت إليها وهو ما شكل صدمة حقيقية لي، وحتى لا أقع في مصيدة البطالة التي كان الاحتلال ينصب شراكه فيها، عملت في الديكور والبناء لمدة سنة ونصف، وكنت خلالها أفكر بمواصلة دراستي العليا واستطعت أن أحصل على منحة دراسية أخرى بسبب تفوقي، وشعرت حينها بأنه يجب علي استقاء العلم المتعلق بالإعلام والاتصالات وفق المدرسة الغربية ولا أتوقف عند حدود المدرسة الشرقية.

ولذلك كنت أدرس دراستين معا، وكان علي الامساك بناصية هذا العلم من طرفيه، لأن الإعلام في تلك الفترة كان يخضع هو الآخر للايدلوجية التي تحكم العالم، إضافة إلى ذلك درست متطلبات العمل السينمائي من تصوير وإخراج ومونتاج.

في العام 1991 عدت مرة أخرى، حاملا عقدا للعمل في جامعة النجاح كاستاذ للإعلام، وكنت سعيدا بذلك، وعندما وصلت إلى نابلس فوجئت بإعلان الاحتلال إغلاقه للجامعة، وكانت هذه سياسة متبعة لديه، وقد ألغي العقد قبل أن أبدأ فيه وكي لا أقع في البطالة عملت كمساعد مخرج أفلام وثائقية ومن ثم مخرج لها.

ومع انطلاق مؤتمر مدريد وبدء الحراك السياسي في المنطقة أنشأت وزملاء لي وكالة أنباء صحافية هي «مؤسسة البلد للصحافة»، لتصبح بعد فترة وجيزة من أشهر مصادر المعلومات في فلسطين، حيث كانت تبيع الأخبار للصحف المحلية والعربية والعالمية خاصة وأن الحدث ومصدر المعلومات أصبح في فلسطين وليس خارجها، وأصبح لدينا الفرصة لصنع الخبر والتعلم من الإعلام الأجنبي الذي يتواجد بكثافة هناك.

وإبان توقيع اتفاقية اوسلو في سبتمبر 1993، تلقيت عقدا للعمل مراسلا صحافيا لمحطة mbc الفضائية وكانت قد أنشئت لتوها كأول محطة عربية مستقلة تبث من لندن، وبعد عامين أصبحت مديرا لعملياتها في فلسطين، وغطيت لصالحها الكثير من الأحداث بدءا من المفاوضات ومرورا بمجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994 وقد عايشتها عن قرب وهزتني كثيرا.

وابرز ما أذكره فيها قصة تلك المرأة العجوز التي جاءت تسألني اذا كان اسم ولدها «بلال» ضمن قائمة الشهداء المعلقة على باب احدى حجرات مستشفى المقاصد بالقدس أم لا، وعندما بحثت عنه وجدته في رأس القائمة حينها لم اقدر على قول الحقيقة لها بعد ان عرفت بانه ابنها الاكبر، وان لديه 5 ابناء.

وانه خادم الحرم الابراهيمي، وانها جاءت إلى القدس للصلاة في الحرم القدسي، واذكر بانه على الرغم من مصابها إلا أنها حاولت التخفيف عن واحدة أخرى فقدت ابنها لتوها، حينها شعرت بانه ليس لي الحق في تمرير هذا الخبر مرور الكرام، محولا بلال إلى مجرد رقم يضاف إلى القائمة. إلى جانب ذلك عملت على تغطية هبة الأقصى عام 1996، وانتهاءً بالانتفاضة الحالية.

ورغم ذلك كنت أجنح للعمل الأكاديمي، ففي العام 1994 أدركت جامعة بيرزيت بأننا على أعتاب مرحلة جديدة في الإعلام تتطلب تأهيلا للكوادر الإعلامية الفلسطينية، وخلق جيل جديد من الإعلاميين في فلسطين، وبدأت بوضع برنامج متواضع لتدريس الصحافة في الجامعة.

ومن ثم تشاركت مع زملاء آخرين في إقامة معهد للإعلام الذي أصبحت مديرا له فيما بعد، وكنت وقتها أجلس على كرسين معا، الجامعة والتلفزيون، ورغم عملي الصحفي إلا أنني كنت أشعر بنوع من الالتزام تجاه الجامعة، لأنني كنت أطمح لبناء جيل واع ومثقف إعلاميا، وبقيت كذلك حتى عام 2004 عندما طلب مني التوجه إلى دبي وتسلم عملي في قناة العربية، لتكون هذه هي المرة الأولى التي أغادر فيها فلسطين للعمل.

يقول وليد العمري، مدير مكتب الجزيرة في فلسطين: «هو ثروة لأي مؤسسة يعمل فيها، وبحكم عملي معه وجدت إنه محترف جدا في عمله، ولا أذكر إنه فقد أعصابه يوما ما». أما د. كارميلا أرمانيوس، استاذة الرياضيات في جامعة بيرزيت، فقالت: «يتميز بلباقة التعامل، وهو مستمع من الدرجة الأولى، وعندما يتحدث يكون شيقا ويحاول أن يظهر الجوانب الأخرى للموضوع».

وقال نضال حسن، مدير مكتب العربية في فلسطين: «شهادتي فيه مجروحة، وأفتخر بأنني عملت معه يوما ما، فهو استاذ فذ وقدوة ومثال في العمل».

غسان خروب

Email