جذور

الدكتورة مريم بيتشك تعيد لهجة الشحوح إلى جذورها العربية (1 ـ 2)

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدأت دراسة اللهجات في العصر الحديث على ايدي المستشرقين ضمن النشاط الكبير الذي قاموا به بحثا في احوال امم الشرق وتراثها وحضارتها.. وقد اخذ عدد من المستشرقين منذ القرن التاسع عشر يسجلون ويدرسون نماذج للهجات العربية في مناطق مختلفة من العالم العربي، وجاءت الدراسات اللهجية في انماط مختلفة فكان منها كتب المعاجم، ومنها الدراسات الوصفية، ومنها كتب تعليم اللغة للاجانب وكتب النصوص.

ولكن رغم هذا الاهتمام الغربي باللهجات، لم تصادف لهجات الجزيرة العربية عناية كبيرة من قبل الدارسين حتى عصر النهضة الحديث، فقد كانت تقف امامهم في الماضي عقبات كثيرة، وقد انصب اهتمام المستشرقين اول الامر كما يشير الدكتور احمد محمد الضبيب في معرض تقديمه لكتاب المستشرق ت.م.جونستون دراسات في لهجات شرقي الجزيرة العربية الذي قام بتعريبه، بقي اهتمام اولئك المستشرقين على اطراف الجزيرة العربية فنشرت ابحاث تتناول لهجات اليمن وحضرموت والخليج العربي وان كان اغلبها لم يترجم على حد علمنا الى اللغة العربية.

ويعد المستشرق والن من اوائل الرواد الذين درسوا لهجات الجزيرة العربية وذلك سنة 1848م فقد اصدر مجموعة من النصوص نشرت في مجلة المستشرقين الالمانية عامي 1851 ـ 1852م. كما قام المستشرق الهولندي سنوك هرجرونيه وهو من اهم المستشرقين الرحالة الذين زاروا بلاد العرب في القرن التاسع عشر، وقد سجل اثناء اقامته في مكة بعض الامثال والالغاز المكية.

ومن المستشرقين الاوائل الذين اهتموا بلهجة حضرموت وجنوب الجزيرة العربية كارلو لاندبرج وقد اصدر فيما بين عامي 1901 - 3191م كتابه الضخم عن لهجتي حضرموت ودثينة كما له مؤلفات اخرى عن قبيلة عنزة، ومعجم لالفاظ هذه القبيلة. كما ان من اشهر العلماء الذين درسوا لهجة عدن وحضرموت العالم الايطالي روسي وقد كتب منذ عام 1937م عدة مقالات عن اللهجة العربية في تلك الاصقاع.

ومن المستشرقين الذين اهتموا بلهجات جنوب الجزيرة العربية المستشرق رودوكاناكس الذي كتب عن لهجة ظفار الدارجة كتابا صدر فيما بين عامي 1908 - 1191م. رغم ان معظم اعمال المستشرقين القدماء كانت تقوم على جمع المادة ودراستها بطريقة تقليدية، وكانت في معظمها تتميز بالخلط وكثرة الاخطاء، فهم غرباء عن اللغة العربية الاصلية فهي ليست لغتهم الام فكيف الحال وهم يدرسون لهجة من لهجاتها القديمة، ولم تكن الدراسات اللغوية قد تقدمت، ولم تكن وسائل التسجيل والملاحظة والقياس قد تطورت الى ما نراها عليه في الوقت الحاضر.

اما اليوم فاننا نجد في الغرب دراسات والحق يقال متطورة جدا وجديدة، فقد اصبح البحث اللغوي علما معقدا يستفيد من الرياضيات والعلوم الاخرى بشكل كبير، ويعتمد على استخدام المعامل، والمختبرات اللغوية، والتجارب اكثر من اعتماده على الناحية النظرية.

ونجد اليوم في كثير من الجامعات الاوروبية والاميركية دراسات متطورة عن لهجات البلاد العربية، وتحظى الجزيرة العربية بقسط كبير من هذه الدراسات لما في لهجاتها من اتصال وثيق بالعربية الام، واحتفاظها بخصائص لغوية نادرة لم تعد توجد في لهجات الاقطار الاخرى.

وفي بلداننا العربية كان البحث في هذا المجال الى وقت قريب مصابا بالركود والجمود، فكان هم العلماء يتلخص في مجرد شرح المتون، ووضع الحواشي لهذه الشروح، دون البحث في اسرار الوظيفة اللغوية ولا تعليل لظواهر اللغة. ولعلنا نلحظ اكثر ندرة الدراسات اللهجية المهتمة بلهجات جنوب الجزيرة العربية واقتصار مانشر (واغلبه لم يترجم الى العربية) على اعمال المستشرقين.

وكنت قد سمعت وقرأت كما قرأ غيري عن بحث علمي عن (لهجة الشحوح) هذه القبيلة العربية الاصيلة قامت به الدكتورة مريم بيتشك استاذة اللغويات في كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بجامعة الامارات، ونظرا لما تعرضت له لهجة هذه القبيلة العربية من تشويهات لااساس لها من الصحة من قبل باحثين اقل مايمكن ان يوصف ما كتبوه بانه غير علمي وغير منطقي .

واعتمد على اجتهادات شخصية، نظرا لكونهم باحثين غير متخصصين كما وصفتهم الدكتورة مريم بيتشك، بل وتعرض بحثها العلمي هذا الى تشويهات عديدة نشرتها الصحافة المحلية، ونقل كلام كثير على لسانها ونشر وهي لم تقله، ربما لاستسهال البعض عملية النشر كونه وجد ابواب الصحف مفتوحة امامه فينشر دون تحقق وتمحيص فيما ينشره لعدم تخصصه ودرايته فيما يكتب عنه. لذا آلينا على انفسنا ان نقف بانفسنا على حقيقة الامر فكان هذا الحوارالذي كنا نعد له منذ وقت طويل.

حب الاستطلاع الممنهج

ـ د. مريم بداية، من اين جاء اهتمامك بموضوع اللهجات بشكل عام، ولهجة الشحوح بشكل خاص؟

ـ بدأت اهتماماتي بالدراسات اللغوية منذ كنت طالبة في جامعة الامارات، لان موضوع اللغة اقصد الدراسة والبحث عن اصول اللغات كان جزءا من مجال اهتمامي كجانب تفكيري، نحن في المدارس لو نلاحظ كان يتم تدريس اللغة العربية لنا بطريقة مختلفة تماما، واساسا انا تخصصي في اللغة الانجليزية ودرست وما زلت ادرس اللغويات في جامعة الامارات، وجاء اهتمامي بانثروبولوجيا اللغة لو صحت التسمية، اثناء فترة دراستي للغة الانجليزية فكان الاساتذة يكلفوننا ببعض الواجبات على شكل ابحاث في علم اللغة الاجتماعي وعلم اللغة المقارن ودراسة الخصائص الصوتية للغات، وقد شاركت في تلك الابحاث كجزء من دراستي الجامعية للغة الانجليزية التي درستها هنا في جامعة الامارات.

وكان الاساتذة الذين درسنا على ايديهم عندهم حب التعرف على المنطقة، منطقة الجزيرة والخليج، من خلال التعرف في الحقيقة على لغات المنطقة ولهجاتها وخصائصها الصوتية ، وكان هذا التقليد مطلوبا منا كطلبة، هذا اولا، اما ثانيا فكوني عشت في الساحل الشرقي وكنا نتنقل منذ الصغر بين مناطق كلبا والفجيرة وخورفكان ودبا وعلى امتداد هذا الساحل وصولا الى عمان، كنت الاحظ تنوعا في اللهجات المحكية بين ابناء تلك المناطق الجغرافية المتقاربة، فشدني هذا الشيء اكثر للتعرف على هذه اللهجات.

وكنا نذهب احيانا الى بعض المناطق الجبلية التي كان يتواجد فيها الشحوح، في منطقة دبا بالذات، لنحضر بعض الاحتفالات والمواسم خاصة في الاعياد، فلديهم موروث شعبي غني جدا سواء من الرقصات الشعبية خاصة في مساءات الاعياد، او الحكايات الشعبية، كنا نذهب الى هناك لنتفرج على هذه الفعاليات الجميلة، فكنا نسمع كلامهم ونلاحظ فيه اختلافا قليلا عن كلامنا وايقاعاتهم ايضا مختلفة، فكنا نتساءل لماذا هم مختلفون عنا، وياترى ماهو سبب هذا الاختلاف، حب الاستطلاع هذا بقي معي فترة طويلة.

اللغة كائن حي

ـ تعرضت لهجة الشحوح مع الاسف الشديد وهذا ما لمسته شخصيا إلى الكثير من التشويه من قبل بعض الباحثين، لماذا برأيك؟

ـ هذا صحيح لان من كتب عنهم كان اغلبهم من غير المتخصصين، اذكر ان اول مقال قرأته عن لهجة الشحوح كان قد نشر في مجلة (العربي) الكويتية وكنت على مااذكر في سنتي الجامعية الاولى. قرأت ذلك المقال بتعمق وروية، لكن محتوى المقال لم يكن مقنعا بالنسبة لي، كان جزءا من استطلاع مصور وكتبوا عنهم كلاما غير مقنع بالمرة، زعم من كتب عنهم انهم (اي الشحوح) هم من بقايا البرتغاليين، وان جنودا برتغاليين عاشوا في هذه المنطقة منذ سالف الازمان وتزاوجوا مع اهل البلاد وهؤلاء من نسلهم، لانهم يتميزون ببياض البشرة وبالعيون الملونة وركزوا على الملامح الشكلية فقط، مبررات لم اقتنع بها بتاتا.

وبما ان اهتماماتي كانت باللغة العربية في البداية، وباللغويات بشكل عام، وتاريخ اللغات، والتراث اللغوي للشعوب والامم، وكيف تتطور وتنمو هذه اللغات وكيف تحفظ وكيف تندثر وما الى ذلك من تساؤلات، والذي افادني اكثر في اثراء هذا الاهتمام عندما درست للطلبة تاريخ اللغة الانجليزية هنا في جامعة الامارات، في يوم من الايام في العصور الوسطى كانت اللغة الانجليزية مهددة بالانقراض، واليوم هي اللغة الاولى في العالم كله، فهذا يدل كيف يمكن للغة ان تنمو ويمكن ان تضمحل وتموت.

اللغة اللاتينية مثال اخر، كيف كانت في العصور القديمة لغة السيادة ولغة الامبراطورية، لغة التعليم والمعرفة، اليوم لا تجد من يتكلم بهذه اللغة لانها اندثرت واستقرت في الزاوية المنسية من التاريخ. اللغة كائن حي، ينمو ويتطور ويتفاعل مع محيطه والا اندثر.

نحن في الجزيرة العربية لدينا مادة خام، بحاجة للبحث والدراسة، مادة غنية جدا لم يتطرق اليها غير المستشرقين، اقصد المادة المتعلقة باللهجات ولغات جنوب الجزيرة العربية القديمة، من هنا بدا اهتمامي بدراسة لهجة (الشحوح) لانها بقيت مرتبطة بتفكيري، وحب البحث يزداد يوما بعد يوم، ولكوننا عشنا قريبين منهم وتعاملنا معهم كما عشنا مع النقبيين وهؤلاء لهجتهم مختلفة، كنت دائما ابحث واسأل عن اصل بعض الكلمات التي ربما ترد في الحديث اليومي العادي، هذا الشغف المعرفي رافقني ايضا ايام المرحلة الجامعية.

ـ متى تولد لديك الاهتمام البحثي المباشر بهذه اللهجة؟

ـ اذكر في بدايات اجتماعنا وتعارفنا في جامعة الامارات، نحن كنا مجموعة من الطالبات قادمات من الساحل الشرقي، مع طالبات قادمات من الساحل الغربي، وكلنا من الامارات بالطبع، فكنا دائما نعلق تعليقات طريفة حول طريقة نطقنا لبعض المفردات باللهجة المحلية، واختلاف النطق لهذه المفردات وما يحدثه هذا النوع من المفارقات اللغوية. اضافة الى ذلك كنت احب الرجوع الى القواميس وتصفحها مثل مختار الصحاح وغيره من المعاجم اللغوية الانجليزية ايضا بحكم دراستي للغة الانجليزية، شغفا بتأصيل الكلمة والبحث عن جذورها، هذا الشغف كان معي منذ ايام المراحل الدراسية الاولى، كنت معجبة باللغة العربية وبمسألة اشتقاق الكلمة وارجاعها الى جذرها، هذه الحفريات اللغوية استهوتني منذ تعرفت على اللغات.

بعد تخرجي في جامعة الامارات، وبدأت تدريس تاريخ اللغة الانجليزية في الجامعة، وتتبع اصل الكلمة ومن اين استعيرت مثلا وما الى ذلك، وكيف تنقلت من مكان الى اخر، عاد معي الشغف الاول والاهتمام باللهجات، فاحببت ان اكتب عن (المجتمعات اللغوية في دولة الامارات العربية المتحدة)، فقلت دعني اركز على مجتمعات لغوية ربما تكون غير بارزة وغير معروفة بالنسبة للباحثين المتخصصين في اللغات، موجودة عندنا هنا في دولة الامارات.

واردت ان اعرف بها وبالخصائص اللغوية للهجاتها، وعلميا فان للاختلافات اللغوية والقبلية جذورها التاريخية، اي اختلاف لهجات القبائل التي تعيش في دولة واحدة ونحن نعرف هجرات ومواطن وتنقلات القبائل وتحركاتها قديما، ومجتمعات الجزيرة العربية كما هو معروف مجتمعات من اصول قبلية، كانت ومازالت، بعد ان انصهرت وزالت الفروق القبلية وتوحدت في اطار الدولة الواحدة.

كنت ايامها ادرس للطالبات مساقا في (الاستيعاب) باللغة الانجليزية واطلب من الطالبات قراءة بعض الفقرات من نصوص، وكنت الاحظ طريقة نطق الطالبات لبعض المفردات، فلاحظت ان احداهن تنطق الذال دالا، لاحظت عموما ان بعض الطالبات من قبائل معينة لديهن صعوبة في نطق حروف معينة مثل حرف الذال يقلب الى دال والثاء في ثلاثة تقلب الى فلافة بالفاء وماالى ذلك، هذا الامر شجعني اكثر فسألت طالبة من طالباتي من اولئك اللواتي لاحظت ان لديها صعوبة في نطق الذال هل انت شحية، انا سألتها وقصدي علمي بحت بالطبع، لم تجبني في حينها، بعد ايام جاءتني نفس الطالبة وسألتني :

كيف عرفت بأني شحية ؟ قلت لها في الحقيقة انا اقوم بدراسة علمية لغوية عن لهجة الشحوح، فما رأيك ان تتعاوني معي في هذا المجال، كانت مترددة فقلت لها هل يوجد معكن طالبات من الشحوح، قالت نعم فقلت لها تفضلوا يوما لنتحدث قليلا عن لهجتكن لاني اريد ان اعرف المعلومات منكن انتن لانكن تتحدثن بهذه اللهجة، بعد تقريبا شهر او شهرين جاءتني طالبة اخرى كانت تدرس في كلية الشريعة والقانون وقالت لي سمعت انك لديك اهتمام وتقومين بدراسة علمية عن لهجة الشحوح وانا احب التعاون معك في هذا المجال البحثي، وتعاونت معي بالفعل.

كانت قد سيطرت علي فكرة الكتابة عن المجتمعات اللغوية وقياس مدى ذوبان هذه المجتمعات اللغوية ومدى المحافظة على قوتها وازدهارها في ظل التطور وفي ظل اشياء وعوامل كثيرة اخرى قد تكون حصلت من حولها وبالتالي اثرت فيها.

عمار السنجري

Email