البخلاء.. وفن إعادة التدوير

ت + ت - الحجم الطبيعي

نقل لنا الجاحظ في كتابه «البخلاء» صوراً سلوكية لطبقة من أفراد مجتمعه، تعكس نظرتهم إلى الحياة، وهي شخصيات تتسم -من جهة- بالعفوية المسكنة، و-من جهة أخرى- بالدهاء والاحتيال.

ومما التقطه صورة معاذة العنبرية، التي تعد نموذجاً في التقتير؛ بما بلغته من شأو في درجات البخل؛ حيث ادّخرت أضحية أهدِيَت إليها؛ حتى حال عليها الحول، فعمدت إلى استغلالها استغلالاً فاحشاً؛ فأعادت تدوير الجلد، والصوف، والعظام، والدم؛ متذرّعة بأنّ تضييع القليل منها يجرّ إلى تضييع الكثير، وأن الحكمة تقتضي جعل كل جزء منها في مكانه!

إن إعادة التدوير لدى معاذة، سلوك سيطرت عليه عدة مفارقات، أظهرته كقيمة سلبية من منظور أخلاق العرب -الذين مجّدوا الكرم حتى صار علامة مسجّلة باسمهم-، والدين، والأعراف الاجتماعية، وصدَّرته في المقابل بوصفه التزاماً واعياً لصدِّ الفقر؛ ومجابهة تقلبات الزمان.

إن إعادة تدوير الأشياء فكرة أصيلة لدى الفرد، قديمة قدم إدراكه لمصالحه، اختلفت مظاهرها وفلسفتها وحدّتها، باختلاف أنماط التفكير، وتمثُّل طبائع الأشياء.

فهي اندراج مستمرّ في دورة الحياة، وحفاظ على الاتزان الكلّي الذي تحمله عناصرها، إنها الجوهر الصميم من كل ما له ظاهر في مجال ديمومة العيش، إنها باختصار: وجود استمرار يعكس استمرار وجود! ولما كانت الاستدامة فن العيش المتزن والعادل بين الأجيال المتعاقبة، كانت إعادة التدوير فنّاً ذوقيّاً، ورقيّاً اجتماعيّاً، ووعياً ثقافيّاً وحضاريّاً بالحياة، قبل أن تكون براعة في التصرف والتّقشف، أو بعبارة موجزة: إن فن إعادة التدوير سلوك يساير تدوير وتغذية الأفكار الإيجابية؛ للمحافظة على روح المجايلة والتناغم داخل المجتمع وبين الأجناس البشرية.

إن الاستدامة ليست صراعاً على البقاء، أو أنانية تجاه الآخر، إنها فن العيش المشترك، والمسالمة بين بني البشر، من أجل عالم يناهض التخلف والفقر؛ ليقارب مقولات حضارية وجمالية راقية، ويعزّز منظومة القيم الأخلاقية؛ التي تجعل منها مفهوماً كليّاً جامعاً لمتطلبات الإنسان ومقتضيات الإنسانية، في كل زمان ومكان، بعيداً عن مزالق البخل ومنطق البخلاء.

 

Email