«أورلاندو» والتوازن الموهوم

ت + ت - الحجم الطبيعي

توضح لنا المؤلفة الإنجليزية فرجينيا وولف في روايتها «أورلاندو» كيف أن الأبهة تُبنى على الفساد، وكيف أننا نحن من نحتفي بأنفسنا رقصاً وغناءً فوق الأرض، لسوف يأخذنا الزمن يوماً، لننام في أسفلها أو بداخلها..

تبدو فرجينيا وولف في تلك الجُمل وكأنها تلقي لنا بموعظة أدبية، تنقلها كأمثولة لترشدنا وتهدينا من خلال بطلها الشاب الوسيم الأرستقراطي أورلاندو، والمالك لمنزل كبير جداً، بل أكبر من المتوقع فهو يحتوي على 365 غرفة، أي بعدد أيام السنة، وعشرات الخدم بانتقالهم الدقيق بين الردهات مع صحون الذهب، لكن أتى أورلاندو الوريث الشاب بمزاج مختلف عن أمزجة جميع أجداده من جشع وبطر في أبعادهما الدقيقة.

لدى أورلاندو داء المطالعة ليقع فريسة التساؤلات ويتعلق بالكتابة، ويؤلف كتباً كثيرة، كثيرة جداً، لكنها سيئة للغاية، ومع ذلك كان مستعداً ليدفع الكثير مقابل الشهرة وكتابة كتاب صغير، ولا بد أنه كان يعلم بأنه لو يبيع قصره هذا وأراضيه المتناثرة كلها فلن يستطيع أن يوفر لنفسه وبقلمه وفكرهِ كنزُ تلك الفقرة المكتوبة برشاقة ومهارة.

يقع أورلاندو فريسة القلق فيرهق دماغه في تلك الرومانسيات الطويلة والمرهقة التي يكتبها، مطولات بلا جديد ولا تجديد. وهو يعلم أن أجداده وعائلته ذات السلالة العريقة في كل اسم منهم، جميعهم مدفونون في أسفل القصر، فمن يذكرهم الآن؟ وماذا فعلوا ليُذكروا؟ لقد قطع جده الخامس السير (فلان) مثلاً، رؤوساً كثيرة مقابل أن يملك أراضي أكثر، وجده السابع السير (فلان) أيضاً أطلق رؤوساً في الهواء بسيفه الباتر ليمتلك أكثر.. وها هم جميعاً يرقدون في الأسفل، بقايا عظام وذاكرة لا تهم أحد.

مع الوقت يصبح لدى أورلاندو شغف ليتعرف على الكاتب العبقري (فلان)، ويدعوه إلى قصره يوماً، والكاتب الموهوب هو أيضاً من سلالة عريقة لكنها فقدت أملاكها عبر قرون ماضية، نقصت تدريجياً حتى النفاد، وها هو الآن نبيل بلا ألقاب، وشريف لا يتمتع بحقوق. يسكن في شقة صغيرة تطل على شارع يزدحم بأصوات الباعة، ورغم الكثير من العلل في جسده فإنه يكتب بعمق عن تلك الأفكار البسيطة التي تجاورنا، ليطرحها بآفاقٍ يقظة وسحيقة، وعن كل ما هو شاسع وعميق.. أي باختصار هو لا يكتب تلك القمامات الصالحة للبيع.

تعجّب أورلاندو المثقف الغافل كيف يكتب ضيفه وهو مزدحمٌ ومنهكٌ هكذا، بينما تعجب الكاتب الألمعي الذي يئس من البشر، كيف يُصر أورلاندو على استبدال السيف بالقلم جبراً؟ ولماذا يرغب أن ينتزع المجد بعقلٍ نبيل، وهو في قصره الموحش هذا والمبتذل في تُحفه؟ نعم هو مكان مبتذل لمن يريد أن ينتج أدباً.. فلا هَمَّ له سوى أن يقال بعد نومه في حضن المرآب أسفل القصر مع أسلافه إنه قد صَنَعَ أدباً وأملاكاً، وحقق التوازن المطلوب.. لكنه بالطبع توازنٌ موهوم.

Email