الخط.. حديث أناملنا

حين أضغط على مفاتيح الحروف بلوحة الطباعة الخاصة بالحاسوب، أتذكر كيف بدأنا طفولتنا ندرس الخط بأيدينا قبل اختراع ما نحن عليه من تكنولوجيا. لستُ من النوع الذي يتحسر على الماضي، فلا أجمل من أن يعيش الإنسان عصره، وما أعنيه تحديدًا هنا هو فن الخط العربي بأنواعه التصميمية.

فكتابته مختلفة عن كل الحروف الهندسية الأخرى المنتشرة في العالم، وبغض النظر عن منبت الخط العربي الذي اختلف عليه المؤرخون كونه مِسْنَدي القاعدة أو آرامي الأصل، يبقى الخط العربي مغايرًا في نقشه، ولا مبالغة إن قلت إننا نكتبه وكأننا نراقص به القلم تارة ونبكي معه تارة أخرى، لما في بنيته من استواءٍ والتواء واعتدالٍ وحدب.

ولا شك أن القلم القصب، المشذب والمهذب، ولكونه نباتاً حيّاً يشعر بعروق أصابعنا وهو يعبر على روح الورقة بتأنٍ وصبر وتأمل، ونحن نتخيل مع كل ضربة من ضرباتنا حين ينزلق الحبر مع إيقاع النَفَس. يا له من سُلطة! ألسنا حيال كتابة تمس الوجدان؟ الأمر الذي جعلني أبحث عن المعنى الحرفي للخط في معجم المعاني، فكان يعني الطريق الذي نسلكه، أو تلك المسافة التي نقضي بها... إذن خطنا جوهر طريقنا، وطريقنا جوهرنا.

الخطاطون الآن يمارسون هذا الشغف، يدمنون الخط، فقد اعترف أحدهم أنه تمر عليه أيام وهو ينقش حروفًا دون تصميم أو دون أن يعرف إلى أين؟ لكن حين تخرج الأصباغ الطبيعية بين يديه من أدوات الخط الأصيلة والمصنوعة من الطبيعة، جلد المسند والفروة والمحبرة... بارزة بين عينيه، يشعر أنها تبذر السكينة فيه وهو بين السطر الخالي، تدعوه إلى النقش كي يبعد عنه شبح الإثم والغم مقتربًا من الطهر فالفرح.

يقول كنتُ أخطُّ إلى دون وجهة وكأن الأمر يتعلق بإلهام، ويختلط حماسي الديني بين حروفٍ نابعة من كتابٍ مُنزلٍ وبحماسٍ فني، لأبتكر دون تخطيط فنًا للإيمان فأباركه، حينها أعلن الحب على الخط. وكما قال جلال الدين الرومي: «ما لمس الحب شيئًا إلا وجعله مقدسًا».

الخطاط فنان، صاحب مزاج حلو، ينقش برغبة وصبر ودقة وجدية، ليحول الأبجدية إلى فن، لأنه لا ينتظر مالاً أو شهرة بل تعلقاً يعيش عليه. بات هذا الفن يجلب السلام والسكون لأرواحنا، لما في قوانينه اللطيفة من حب، بدخولها مهجة جوانبنا العشقية المتَخَيلة، ليغدو اكتمال علاجنا.

إدراجنا فن الخط العربي في مدارسنا مع حصص الرسم، سوف يصبح وسيلة بصرية هامة، لغرس سماته في قلوب أجيال قادمة بحاجة إلى إثراء روحي لا حدود له، فنرى التلميذ يتدرج في الخط إلى المراحل الثانوية، ويتخرج مع علومه وآدابه، رسامًا برتبة خطاط.