بين القارئ الكمي والنوعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل يُعقل أن يقرأ ذلك القارئ كُتباً لا حصر لها، ويبقى كما هو، لا يتغير، ولا يتحرك فيه شيء حتى، إنه القارئ الكارثي الذي يحيط بنا، قارئ يمضي دون أن يستفزه المعنى، دون أن ينتبه لخيالات النص، لا يفطن حتى إلى مزحات المؤلف، يقرأ ولا يحس بالمفردات بل يبلعها وكأنها مفردات مُسلمٌ بها.

قارئ واقعيٌ جداً، مادي، يفتش عن اللا شيء، ولا يأنس للفقرات حية كانت أو ميتة، يمضي في قراءته والهدف صريح، وهو إنهاء الكتاب والوصول إلى النهاية، كي يلتقط كتاباً آخر، منهياً سواد العناوين المختارة في جدوله الشهري، أرقاماً تنتهي بين زوايا عينيه، شبيهة بتصفح تلك المجلات السطحية المرئية في كل مربع وحيّز.

يقرأ للمتعة كما يقول، وما المتعة سوى تَرَف، ورَفَهٌ يستلذُ به بين الحبر والورق وكأنه في احتفال ووليمة، يستمتع بتلقيه السطحي، لذا يقرأ ويقرأ وكأنه يتبع سلوكاً خاصاً، وبعواطف مثالية، وهل ثمة عواطف مثالية؟

أليست القراءة إبداعاً أيضاً؟ القارئ المبدع، يستقرئ حقائقَ غير مرئية، يتتبع الجزئيات للوصول إلى ما لا يلاحظ، حينها يأخذ تَلَقيه مجرى روحياً، يقترح فقرات بديلة وفق رؤيته وكأنه يسهم في بناء خيال جديد، يروق له استخدام المعاجم والخرائط، يكشف ويكتشف، لا يستحي من قولبة الكتاب وإعادة قراءته، بحثاً عن أسئلة لا عن أجوبة، أسئلة تُحييه، فيا له من قارئ نادر! بين كل هؤلاء القراء.

قارئ مختلف في قراءته، يستفيق بذاته الغامضة فجأة بين السطور، وكأن الكاتب يكافئه بأن أخرجه من سباته، لمجرد أنه استمع إلى لحن المفردات وأنفاسها، أو لأنه عالج صفحته وأعضاء فقراتها بمجهر قلبه، بعد أن تعرف على كل جملة وعمرها وأسباب الموت والحياة في خلايا المعنى.

حين يتفهم القارئ لغة الكاتب العميق، ونصه الشبيه بالهواء الذي يتنفسه، يصبح بلا هوية كما الكاتب في خياله، كائنٌ وُلدَ منذ قرون، ليعيش قروناً أخرى، ويظل تائهاً في جغرافيات الكتاب وبلا نهاية.

القارئ مُكتَشِف نوعي لا كمي.

 

Email