لماذا نعود؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

لماذا نعود؟ لماذا هذا الأسى الشفيف الذي كلون الشفق يبهرنا ويخنقنا؟ العودة سراب نكشف زيفه، ووهم نذلله فنرتاح. كل هذا الحنين، فيض مهجور.

لا عودة في الحياة، جميلة، كما في السينما. كما في المشهد الأخير من فيلم cinema paradiso. مشهد أكبر من الفيلم، بحجم حياة متخيّلة، كما كل شيء جميل وعصيّ على التحقق.

في أشعارنا الجاهلية والحديثة، في خاصرتنا الوجدانية، في خططنا، في معاركنا وهزائمنا نحضّر للعودة. لماذا نخطط لذلك التدمير الذاتي الذي نشتهيه؟ غريزة الفناء التي نسعى وراءها. ماذا في الأمكنة التي تركناها لنعود، وما في الأمكنة التي حللنا فيها لنترك ونهرب.

وماذا عن الترحال؟ أليس هو دروب نزرع فيها حفنات من الحنين، وأشعارا عن العودة، ولوحات عن الهناء. ألا يكفي مكان واحد نحنّ إليه؟ نحن نرتحل لأننا محكومون بالجشع إلى مزيد من الحنين. كثير من الحنين. الحنين، لا لعودة واحدة، بل لعودات كثيرة.

لكن "الحياة في مكان آخر"، ألم يقلها ميلان كونديرا؟ ألا نتعلم من الفيلسوف التشيكي، من شخصياته التي تولد من "مزحة" أو وهم "خلود" أو "رقصة فالس" أو حركة يد امرأة عجوز عند حوض السباحة.

لماذا نعود؟ يغتالنا الأدب وتزور السينما أحلامنا. يعيد يوسف شاهين "الابن الضال". لا يكتفي بأن يجعله ضالا، عليه أن يتأكد من "عودة الابن الضال"، لكننا هنا، وكما في نظريات "فرويد"، لا نعود لنستريح، بل لكي نشهد تراجيديا نهايتنا ونهاية من نحب: يعود الغائب، المكبوت، الذي كان في ما مضى مألوفا ومحبوبا وهانئا، فيكون الغريب الذي يدمّر كل شيء. ماذا يبقى منا حين نعود، هل نعود كما نحن، هل تعود معنا أغنية الطفل وسذاجة اللعبة، أم أننا نعود إلى ما نحن إليه لكي نفنيه ونريح أنفسنا من عذاب الحنين؟

ماذا لو لم تكن فيروز؟ لو لم تغني؟ لو لم تحمّل أيامنا بهذا الحشد الهائل من همسات العودة وأصداء الحنين. لماذا "طريق النحل"، و"القهوة البحرية" و"وينن" و"ردني إلى بلادي" و"نسّم علينا الهوا" و" يا طير" و"يا قدس" و"ياريت ترجعوا".. هل غنت فيروز لغير العودة المستحيلة؟

لماذا نعود؟ إلى أين؟ ها هنا، في القلب مكان لا يزيح عنا، لا يتركنا، لا نتركه. في قلوبنا أوطان لا ترتحل!

Email