الجندي النظامي مدخناً سيجارته

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان يدخن السيجارة بهدوء ويجمّد عينيه في نقطة بعيدة في الأفق. لم تكن أي إشارة على وجهه توحي بحالة الانتشاء، التي تتسرب إلى بالع الدخان ونافثه في هنيهة مختطفة على «الجبهة».

بماذا كان الجندي النظامي يفكر في تلك اللحظة؟ بالإجازة؟ بالشاي، الأم، الحبيبة، الصديق، بـ»ساندويش شاورما»؟ يبدو ذلك كله، الآن، بعيداً، كما تلك النقطة التي تعلقت عندها نظرته. لو كانت النقطة أرجوحة، لتقلبت عيناه يمنة ويساراً، صعوداً ونزولًا، وأزهرت في حدقاته ضحكة طفلة وشتلات ياسمين، لكنها نقطة جامدة.. بعيدة وجامدة كما هي ملامحه، يغبّ من السيجارة، بوجه جليدي، لا تتحرك فيه عضلة.

كان للتو قد فرغ من «تطهير» بندقيته من عوالق الدماء. بعد ليلة رهيبة مسحت فيها كتيبته دروب القرية العدوة، بحثاً عن الإرهابيين، وجد ثلاثة منهم مختبئين مع عتادهم الحربي في فجوة جدار صخري، كما الكهف. لم يتردد في تفجير الفجوة برصاص كثيف باغت المختبئين، فيما أحدهم يحاول أن يغلي الماء في إبريق شاي ثبته على أحجار صوانية، محشوة في وسطها بعيدان سنديان وصنوبر.

 لم يتمكن أحد من الثلاثة من الخروج، إذ إن الفتحة ضيقة، تتسع لموت سريع متسرب، لا لخروج بطيء زاحف. متحصّناً، وراء صخرته، كان بوسعه أن يستمع إلى صيحاتهم، نداءاتهم، ألمهم، «استشهاداتهم»، ويلمح قطرات حمراء تتطاير من الداخل، وتعلق على حواف الصخر. ثم يهدأ كل شيء، ويسيل جدول غزير، من السائل الساخن، كما في يوم ربيعي تفجّر قبل أوانه.

على مهل، وبمشية مواربة، يقترب. يصنّ أذنيه بحثاً عن همس أو أنفاس متبقية. يتأكد أن لا شيء تبقى. يدخل فوهة بندقيته وينكش بها، كبردان يحرك الحطب بعود حديد، خائفاً أن يحرقه شرر.

الآن، يدخن سيجارته بشراهة، ولا أحد يعرف بماذا يفكّر. منذ زمن بعيد، منذ أن كان «طفلاً نظامياً»، ومن ثم «مراهقاً نظامياً»، ثم «رجلًا نظامياً»، اعتاد ألا يفكر في أمور كثيرة. مثلًا: لماذا يتوجب عليه أن ينفذ الأوامر دوماً كخادم مطيع من دون أن يعترض، أو يفكر حتى أن يعترض؟ لماذا لون الهواء في بلده رمادي؟ ولماذا يترهل الرجال في عمر الفتوة؟ أمور كثيرة لم يكن بوارد التفكير فيها: لماذا يظن أن حطباً تطعنه.. ولا يشتعل؟

Email