شمعات فيسك في الفلوجة

ت + ت - الحجم الطبيعي

صديقنا لا يغيب عنا، ولا يتركنا للعتمة، وهو منذ عقود مصرّ على أن ينير شموعه على حفات مآسينا. روبرت فيسك، صحافي الـ«اندبندنت» والانتصار للناس، الأشهر، لا يتعب، لا يكل، لا ترهقه السنون، وربما لا يزال الحيّز الأكبر في حقيبته للأقلام والمفكرات، لا للأدوية وتحذيرات الأطباء.

من الفلوجة، تأتينا أخباره هذه المرة. في ضجيج انشغال بريطانيا، بفضائح تورط استخباراتها في عمليات قذرة في ليبيا وأوغندا خدمة للسيّد الأميركي، يطلق صفاّرته الخاصة ويقول: «حسناً، أنا أريد أن أذكّركم بجرائم السيّد، مباشرة». هل أرادت «اندبندنت» أن تخفف الضغط عن حكومة بريطانيا بلفت الأنظار إلى فضائح أميركا؟ بالتأكيد لا، فمآسي احتلال العراق تورط بريطانيا الحليفة، كما أميركا القائدة. هل «غارت» الصحيفة من «ضربات» منافستها «الغارديان» خلال الأسابيع الماضية، إذ تنشر «غسيل» توني بلير وفرقته على الملأ؟ ربما، لكن الأكيد أن تحقيقات الفلوجة التي ينشرها فيسك مناسبة لاستعادة ذكرى حصار هذه المدينة وقصفها بأعتى أنواع الأسلحة الكيماوية المحظورة. نعم، لقد جاءت أميركا إلى العراق لكي «تنقذ» شعبها من «أفران الكيماوي» التي أشعلها صدام، فإذا بها تستخدم الأفران ذاتها. يقول فيسك، إنه بعد مرور سنوات على العمليات، تبلغ معدلات الرضع الذين يموتون بالسرطان هناك أكثر بكثير من نظيرتها في هيروشيما وناجازاكي المشهورتين باستقبال «هدية أميركية ذرية» ذات يوم.

يقابل الصحافي الاستقصائي حالات من الأطفال المشوهين، أحدهم له رأس حجمه ضعف الرأس الطبيعي : «هؤلاء لن يتمتعوا بالربيع العربي»، يصفهم مستغربا من عدم وجود أرقام رسمية دقيقة توثق أعدادهم، في ظل ثقافة «العار» (!) التي تسود، اذ يقفل الأهل أبواب بيوتهم على أطفالهم خوفا من المهانة والسخرية والذل.

لم تدمر أميركا العراق في سنوات الاحتلال فقط، بل لأجيال مقبلة، وهو ما يجدر بالحكومة العراقية، أن تلتفت لتوثيقه وتسويقه، لتعلي من شأن إنسانيتها وتنتصر لـ«شعبها» ( أو شعوبها) إن جاز التعبير. لماذا لا نتعلم من «الهولوكوست» كيف يتم تسويق المجرم إلى الأبد، والضحية إلى الأبد، والمكتسبات إلى الأبد، والابتزاز إلى الأبد؟ ربما تحمل هذه المقارنة راديكالية مرفوضة، إذ نحن نعترض على تطرف تسويق محارق النازية والإفادة منها، لكن أليس التجاهل حد التواطؤ والنكران نوعاً آخر من أنواع التطرف؟

Email