ما بعد «حداثة» الربيع العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المؤكد أن الفيلسوف الفرنسي جون فرانسوا ليوتار، لم يفكر، وهو يحارب طيلة خمسة عشر عاماً، مع الشعب الجزائري، لكي ينال حقوقه واستقلاله من الاحتلال الفرنسي.. في المراحل التي ستعقب استقلال هذا البلد الذي دفع دماء كثيرة فاتورة للحرية. لا ألبير كامو، ولا ليوتار، ولا أي «غريب» حين يحمل بندقيته، أو قلمه، أو حلمه، ويناصر شعوباً تثور من أجل حريتها، قد يفكر في «ماذا بعد»!. هل هذا يدين فرط الحماسة أو الإيمان في الوجود في لحظة تاريخية مفصلية في خندق محدد، وموقف محدد؟ أقول لا، من منطلق أن واجباً أخلاقياً قد يحتم عليك موقفاً خاصاً، ليس بالضرورة أن تندم عليه، في وقت لاحق، إذا ما آلت الطريق إلى غير «الحرية».

أسمع كثيراً من أصداء الندم، أو الإحباط، طالعة من أفكار أو كتابات كثير من الأصدقاء الذين كتبوا وتحمسوا وانتفضوا لثورات ربيع العرب، بدءاً من تونس، مروراً بمصر، وصولاً إلى ليبيا. الطريق الآن، بعدما اعتقدوا أنه بات مفتوح الأفق والآفاق على مستقبل أفضل، تدلف غمامات سوداء على مساربه كل يوم. هل يجلدون أنفسهم؟ هل يندمون؟ أقول: لا، فالانتصار للإنسانية يجب عدم ربطه بخواتيم ولا خلاصات ولا تنظير.

استغرق الأمر ليوتار ستة عشر عاماً بعد معركة الجزائر، لا لكي يعلن عن موقفه تجاه خلاصات التحرر في هذا البلد تحديداً، بل ليصوغ نظرية ستغيّر مجرى الفلسفة، وربما التاريخ. في 1976 نشر كتيّبه «شرط ما بعد الحداثة» الذي انتقد فيه ما أودت إليه أفكار التنوير المتوجة بالثورة الفرنسية التي أنتجت طيلة قرنين تيارات الليبرالية الاقتصادية والسياسية والماركسية اللينينية والاشتراكية والفوضوية.. والتي طالبت جميعها بتحرير الإنسان من الجهل والفقر والاستبداد، عبْر التقدم التكنولوجي والازدهار الاقتصادي. قال الرجل، الذي مات بسرطان الدم في 1996، إنه حان الوقت لنقد تلك التجربة والتفكير بما.. «بعد الحداثة».

هل نتسرع اليوم حين نُشهر أقلامنا وأفكارنا لنقد تجربة «الربيع العربي»، الذي ما زالت دماؤه تروي شوارع سوريا كل دقيقة؟ أقول: نعم، ومن دون أن أكون حبيس الأوهام. لنتحلَ بصبر ليوتار قبل أن نخوض في كتابة فلسفات «ما بعد الربيع»، فيكون فعلنا أعمق، وكلامنا..أصْدَق!

Email