أليسا الـ «بريختية» وأم كلثوم الـ «أرسطيّة»!

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل سنوات، حضرت، بالصدفة، مناسبة احتفالية اقتصادية، فإذا بالمغنية أليسا إحدى «نكهات» الحفل. صعدت إلى المسرح، تمايلت، احتضنت المايكروفون بجدية وصرامة كمن يحمل مفتاحا لغلال الفرعون، وأطبقت جفنيها تأثرا للكلمات التي كانت تدلف من قريحتها.

هل كانت فعلا تدلف؟ ليس تماما، كان بوسع طفل صغير، حضر الحفل، بالصدفة أيضا، أن يتبيّن أن المغنية لا تغني، في الواقع، وإنما تحرك شفاهها على طريقة «البلاي باك». كانت الأغاني إذا معدة، وحين أحرجها الجمهور بطلب أغنية لفيروز، كـ«نسّم علينا الهوا» (الجمهور ذكي في بعض الأحيان ويعرف تماما متى يحتاج إلى النسيم ومتى يقبل الاختناق بمحض إرادته.. العدمية!)، سمعت بعضا من غناء ذكرني بجارتنا سميّة.

كانت سميّة، في ذلك الزمن الغابر، التي كانت فيها نساء بلاد الشام قادرات على نشر الغسيل المعطّر، فوق حبال الشرفات، من دون أن يبادلهن قنّاص بغيض تحية الصباح. المهم أن جارتنا سميّة كان يحلو لها الغناء، وهي تنشر الغسيل، وتصدح بصوتها ـ صراخها، حتى يتوقف بائع الفجل عن نداءاته ويصرخ فيها من الشارع: «يا أختي، بدنا نبيع الفجل، حاجي (أي يكفي) تغني.. فجل»!.

تذكرت سمية، لـ«سبب ما»، وأنا أجلس في مقعدي مشوش الفكر والأحاسيس. كان ذلك قبل أن أقرأ مسرحيات المؤلف الألماني الشهير بريخت وفلسفته، لأجد فيها عذرا لأليسا وشبيهاتها. حدد بريخت نظرياته في فنون الأداء حول الممثل المسرحي، لكن قد يكون بوسعنا أن نسقطها، ونسقط معها، اليوم على الغناء الحديث (!). كانت طريقة «أرسطو» التي تجعل الفنان منغمسا حد الإيهام في تقديم الشخصية التي يمثلها تزعجه واعتبر أنه يجب أن يكون هناك نوع من الانسلاخ أو «التغريب» بين الفنان وفنه.

هكذا تعمد أن يضمّن مسرحياته فجوات غير منطقية لكي يخرج الجمهور والممثل من حالة الاستلاب للقصة والدور المؤدى. تقنية «البلاي باك» للمغنين، ربما هي تطوير لنظرية بريخت هذه، وغالب الظن أن المغنية اللبنانية، كما غالبية الشعب اللبناني، لا يعرفون بريخت أصلا (وإلا لكانوا تعلموا من مسرحياته التي تنتقد الحرب والاضطهاد والعصبية والشوفينية)..

ولكن، إذا كانت أليسا «بريختية»، فمن يكون النموذج «الأرسطي» في الغناء.. بالتأكيد أم كلثوم على رأس اللائحة!

Email