«بابا عمرو».. السوريالي!

ت + ت - الحجم الطبيعي

يخزنون الدماء تحت أسفلت مفتوح. خوابيهم مكشوفة على الهواء المحروق وريش العصافير المشتعل. يدفنون الخوف ويعلون من شأن العزيمة والعناد: وإن أفنيتنا، فما همنا، في خوابينا سحر الأيام المقبلة، ومنها تنبت الحقيقة في كل أرض وكل سماء: كأنك قاتلنا، لكننا من قتلك!

يتشكلون في هذا الحيّ. كما في لوحة رسام معتوه، يخرجون من «زاروب» بأشكال كلاسيكية مكتملة، ويعودون إلى «الزاروب» بأشكال تجريدية، تكعيبية أو سوريالية. حين يفقد الطفل قدماً، يصبح طفلاً تكعيبياً. علامة مستديمة تحدق في وجه الرسام القاتل، إلى الأبد. وحين تفقد الطاهرة شرفها على بندقية جندي طائفي وبغيض، تصبح امرأة سوريالية، تذوّب ملامح وجهها كل صباح في ماء يغلي.. وتحرقها، عاراً وخوفاً وألماً.

تتشكل وجوه أبناء الحي، كما تتشكل أبنيته وأرصفته ومآذن مساجده وفراغات ساحاته، بأدوات الرسام القاتلة: صواريخ وقذائف انشطارية و«هدايا الموت» تسقط من السماء. يقول الرسام الملعون، في كل كتاب وكل شريعة وكل حياة، إنه «قوي على الأرض»، لكنه جبنه القاتل يرفرف في السماء، باروداً مشتعلًا وشظايا ملتهبة. كاذب وملعون، وخاسر على الأرض.. وتحتها.

تحتها، حي آخر يتبرعم. حيّ، فمدينة، فوطن. يتمدد كما جذور شجرة سحرية تتوغل كلما سقيتها بالدماء. تحت «بابا عمرو»، حيّ سري، وتحت حمص، مدينة سرية، كائناتها من ضياء، ترمم عظاماً متكسرة، وخلايا متفسخة، وضحكات مشروخة، وآهات مفلوقة وصيحات حرية مقطوعة. تلملم طاقة الزخم المتبقية في الموات الدالف من فوق، وتعيد تسريبها إلى أعلى. المناضلون فوق، تراهم في لحظة سرية، في نهاية الليل وبزوغ الصبح، يجثون على الأرض، يحنون رؤوسهم، ويتلقون تلك الطاقة من ذويهم الهاربين إلى المدينة السفلية.

ليس «بابا عمرو» حياً من طبقة واحدة، ولا حياة من طبقة واحدة، ولا مصير من طبقة واحدة. إنه، حيّ وحيّ بمعنى أن طاقة الحياة فيه تولد نفسها بنفسها، وانه، وغيره من الأحياء الحرة، والمدن الحرة، والأوطان الحرة، لا يقدر سفاح على محوه وأهله، حتى لو جر آليات الكون كلها فوق رأسه.

أكتب اليوم بهذه السوريالية، طالما أنني أفكر بأن المشاهد المنقولة عن الموت باتت أقوى من أن تحتملها لغة واقعية وخبرية سردية. الطامة الكبرى أن يكون الإجرام سوريالي والدم.. حقيقي!

Email