سعاد حسني وانجيلوبولوس

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يكن ينقصه في تلك الليلة غير فيلم محمد خان "موعد على العشاء" (1982)، كي تكتمل حفلة "الهشاشة" التي أقامها لقلبه، من دون أن يبدو راغباً، أو قادراً على إيقافها. كانت الهشاشة تحيط بعالمه، وتحاصره، فتدلف من نشرات الأخبار، وصفحات الروايات، ومشاهد السينما، وأفكاره الحزينة التي لو تمكن من تجسيدها لبدت كوجه سعاد حسني في الفيلم:

هشة، تقاوم وتعرف أنها لن تتمكن من الانتصار، تمضي في طريقها الماطر تلملم نظراتها المكسرة كخبز البؤساء، وتعرف أنها لن تهزم في المحصلة غير نفسها، ستدسّ السمّ في قسوة جلادها، لكنها، قبل ذلك، ولكي تتمكن من قتله، لن تتوانى عن.. الانتحار: "انت اللي كسبت في النهاية.. قضيت عليّ تماما"، "هوّ الأكل فيه حاجة؟"، "أيوه.. فيه سمّ".

الجملة الأخيرة في المشهد الأخير من الفيلم، يصورها خان بثلاث لقطات من زوايا مختلفة للعشاء الأخير، وكأنه يريد أن يحاصر الموت الذي يلف المكان من كل صوب، ويلتقط صورة لخوائه. مشهد اعتبره نقاد السينما العربية من بين كلاسيكياتها، ومتتبعو سيرة خان، من بين روائعه.

يتأمل في هذا المشهد، ويخطر له مشهد آخر في الفيلم ذاته، يعتبره الأقسى والأهم: سعاد حسني مع أحمد زكي في مزاد لبيع اللوحات، تتأمل في لوحة تظهر فيها طفلة ممسكة بيد امرأة بالغة، وتمشيان في طريق واسع، نحو سماء تبدو مهجورة وأفق يبدو شاحباً، صورتهما من الخلف، خطتهما ريشة الفنان، تفيضان بالكثير من الحزن والهشاشة، هشاشة الكائن البشري المتمثلة في حاجته الدائمة إلى آخر يمسك بيده.

ويعينه على خوض مغامرة الحياة، تقول: "اول ما شفت البنت في اللوحة دي، حسيت انها تشبهني، حسيت انها انا".. تبكي سعاد في الفيلم بحرقة، لأنها لم تتمكن من شراء اللوحة في المزاد، في دلالة على خسارتها المتكررة للحلم والأمل.

مشهد اللوحة يذكر بمشهد سينمائي آخر، لفيلم من ثقافة أخرى وزمن آخر، فيلم المخرج اليوناني ثيو انجيلوبولوس "منظر في الضباب" (1988)، ينهيه بصورة مماثلة، حيث يركضان نحو شجرة بعيدة في طقس غائم مكفهر، ثيو، أحد أعظم مخرجي أوروبا واليونان، مات قبل أيام بنهاية تراجيدية: صدمته دراجة نارية في موقع تصوير فيلم جديد، فمات، ميتة صادمة لمبدع عظيم، هشة كموت سعاد حسني!

Email