الـ«بوعزيزي» والشيفرة الوراثية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مرّ عام. ما السنة في عمر البلاد وأهلها؟ في سيرة الأزقة الرطبة، وعتبات البيوت المجبولة بالآه والدمع، وحكايات الفقراء، وضحايا "الكبار"، وخطط الزمن الحديث، وخرائط الخيانة والفساد التي يروّج الطغاة لها بقافية "إعلاء لشأن الوطن والمواطن".

أفكر كثيرا في الـ"بوعزيزي"، أن أشتري تذكرة سفر، وأطير لتونس، لعتبة بيته البسيط، أحفر على بابه: "شكرا".

شكرا لمطلق الشرارة التي كنا بحاجة إليها، في ميادين القاهرة وبنغازي ودرعا، لكي يمسّ لهيبها بارود الغضب الكامن في القلوب، في الفكر، في غصة الحلق والروح، في تجاعيد الجبين والقلب، في الجينات العربية التي كان الذلّ قد بات إحدى شيفراتها، يتم توارثه أبا عن جد، كما تتوارث العادات المكتسبة التي تفرض نفسها على خارطة الـ"دي أن إيه".

هذا ليس شعرا، هذه حقيقة علمية، بتنا متأكدين منها: الخوف أيضا بوسعه أن يتحول إلى جين وراثي. لا أدري إن كان بائع الخضار الفقير قد تواردت له هذه الخاطرة، فيما شريط الذكريات الخاطف يمر سريعا في النفق الأسود الطويل، في دماغه، الذي يفضي إلى نقطة الضياء، حين تفارق الروح جسدها ولا تعود.

صحيح أن الرجل لم يكن على تلك الدراية من العلم والمعرفة، التي تخوّله الاطلاع على نظريات الشيفرة الوراثية، لكننا غير واثقين تماما ولا متأكدين، مما قد يراه الميت في لحظاته الأخيرة، طالما أن لا أحد عاد من الموت كي يخبرنا.. صحيح؟ وسواء رأى أم لم ير، فإن بائع الخضار، شاء من شاء وأبى من أبى، قد تدخّل في الخارطة الوراثية العربية، وغيّر ملامح أجيال مقبلة، وكان نقطة معلنة، تحرّك عندها التاريخ لاتجاه، غير المرصود له.

غدا، حين يتوالد بشر جدد في حماة وحمص والبريقة والإسكندرية، ستكون لهم ملامح مختلفة، وعيون مختلفة، وجباه مختلفة، وشفاه مختلفة.. ألسنا كلنا أبناء بيئتنا؟ ألا تشكّلنا عوامل وظروف المحيط الذي نحيا فيه؟ أليس القهر والظلم والحرمان الذي عاشه المصري لعقود من الزمن، بات مجسّدا على جبينه، وفي طيات عينيه؟ ألم يشكل السوري طبقة جديدة لصوته، في بلاد لا صوت فيها كان يعلو على صوت.. الخوف؟

مرّ عام. ما السنة في تاريخ التشكيل؟ للثوار والأحرار كل الزمن القادم!

Email