أحياء ينظّرون عن الموت

ت + ت - الحجم الطبيعي

في وجه الربيع، من السهل أن تثبّت منصّة خطابك وتعلن أن "لا تستمتعوا، فموسم الذبول آت، وهذا الرحيق ليس سوى هواء أصفر فاسد، وهذه الفراشات ليست سوى خفافيش ملونة، وهذا النور ليس سوى نافذة البركان".. من السهل أن تشكك في دافع الثورات العربية الشعبية.. وكل الضباب الذي يغزو مدن العرب وأيامهم، سيساندك على منطق التشكيك.

 فبرهان غليون في "أحضان المخطط الاستعماري الجديد"، و"مصر وقعت في فخ القوى المتطرفة"، وبشائر تونس والمغرب لا تطمئن، كما أن "الشبيحة" الجدد يملأون شوارع طرابلس وبنغازي، وإن بهويات جديدة، وباسم جديد محبب لدى وسائل الإعلام الغربية بشكل خاص: الميليشيات.

من السهل دوماً أن نشكك، ولنا الحق الفطري في ذلك، ولنا مجد ديكارت، وحظوة المفكرين وبريق المتفردين عن قطيع "سيكولوجية الجماهير"، التي غالباً ما ينظر إليها المثقف بوصفها بؤراً صالحة لتفشي ما يصفه بالـ"كيتش" و"البوب" (بالمعنى الدوني) و"السذاجة".

من السهل اقتناء لغة الخشب. تلك التي تواري التشتت بحجة الشجاعة، وتلغز بحجة غزارة الفكرة، وطواعية القاموس الذي يمد المثقف العربي بجمل وعبارات، من تلك التي تحتاج بعد قراءتها إلى حبة فاليوم أو أغنية مهدئة لفيروز: حمرا سطيحاتك حمرا، على سبيل المثال لا الحصر.

من السهل تتبع أخبار المستعمر.. ملايين الصفحات على رفوف مكتبة العرب تفي بهذه المهمة. كتب وتحليلات ودوريات ووثائق مترجمة، وسير شخصيات وصور صادمة. ومن السهل الاستفادة، في اللحظة الحاسمة، من تاريخ الشؤم هذا، الذي لا يشكك طفل في واقعيته، من أجل إطلاق أسراب من البوم لكي تنعق في الربيع، وتخيف الفراشات.

ولكن.. أليس الأصعب هو فهم الدوافع الحقيقية التي تجعل شاباً في مقتبل الحياة، يرمي بجلده الحيّ إلى السفاح لكي يسلخه، وفي قلبه نبل الكون وصفاء الإنسانية وبراءة الحياة؟ أليس من الصعب مناصرة شعوب، انتفضت لقول كلمة حق في وجه طغاة جائرين، أفقروهم وجهّلوهم ورموهم في أحضان الظلمة والظلام؟ أليس من الصعب مناصرة تلك الشعوب والأخذ بيدها، في أوقاتها الحرجة، قبل البدء في انتقادها ومحاكمتها وتحذيرها وتشريح سيكولوجيتها؟ من يجرؤ على تحذير أم انتفضت لمقتل ابنها؟

من السهل علينا، نحن الكتاب والكتبة، أن نّنظر عن الموت طالما نحن.. أحياء!

Email