تأملات «ميثاقية»

ت + ت - الحجم الطبيعي

في تلك القرية النائية، التي تنام على «زقزقة» الرصاص وتصحو على «صياح» المدفعية، لا يهمّ الأم التي استعارت من جارتها منديلا أسود لكي تكمل مظهر حدادها، إن كانت قرارات «الجامعة العربية» تجاه النظام السوري «دستورية»، أم أنها تخالف «الميثاق». لا تعرف الأم شيئاً عن «الميثاق» وهي، لو ترددت هذه الكلمة أمامها، لكانت تعاملت معها بالعفوية المضحكة ذاتها التي تبادر بها كلمات ولدها الغريبة: «بلاي ستيشن»، «كنتاكي» و«دي في دي». حين يعود من المدينة.

بعد جولته الشهرية للتموّن وزيارة عائلة الأب المتوفى في الثمانينات، كان يخبرها عن عالم غريب، لا تعرف عنه شيئاً، وكانت في تردادها الكلمات كافية لأن تثير نوبة ضحك في ساحة البيت الشبيه بكوخ. أيضا في موجات الغضب العارمة، حين يعييها الفقر والعجز، وتصرخ في وجهه: «هذه حياتنا، قدرنا، عشنا كذلك ونموت كذلك.. مش عاجبك؟ روح عبلاد الدنتاكي»!. كان الولد يعجز إلا أن يضحك، ينطفئ بركانه. ويقبل على جبين الأم مع قبلة!

تتذكره وهي، وحدها، على فراش كالح، تسند مرفقها إلى حافة النافذة المغلقة، وتتأمل في شاشة التلفاز ونشرة الأخبار. هل يدق باب البيت؟ هل يدخل الآن حاملا أكياسا وسلامات الأهل البعيدين ورائحة المدينة الغريبة؟ هل يمازحها بحكاياته عن البنات الشقراوات اللواتي لوجوههن لون القشطة، تعارفن إليه في محطة الباص، ولحقن به إلى القرية، وها هن «في الباحة ينتظرن التعرف إلى حماتهن الطيبة.. سأتزوجهن جميعا..»!

«القرار غير دستوري لأنه لم يتخذ على مستوى قمة».. صوت يصدر من التلفاز، لكنه يصلها كصدى، من بعيد، من خلف قمة الجبل الشاهقة التي كانت تحلم بالوصول إليها وهي صغيرة، ترعى مع أبيها غنماته السقيمات.

هي في عالم آخر، مسكونة بجراحها وأشباحها، تفكر: ماذا سيفعل في الشتاء؟ هل سيبرد؟ هل الغطاء الذي نثرته فوقه سيدثره جيداً؟ هل سيشعر بوحشة؟ هل يستنشق عطر الريحان والزهور فيتذكرها؟ هل هو قادر على التذكر؟ حين كان الصقيع ينهش في صدر القرية، كانت تخاف عليه من التهاب الرئة.. تدحرجت دمعة من عينها، فيما تعالى صوت رصاص. تنبهت أن ولدها نائم منذ شهور.. تحت التراب!

Email