عادوا من خلف قرص الشمس

ت + ت - الحجم الطبيعي

المدينة تصحو. كما في الكتب السحرية، بعد الطوفان، لا تزقزق العصافير، فالأشجار احترقت، كما الشطآن باتت مدارجَ للرماد المحروق، وجثث النوارس. الهواء الفاسد لا يزال يسخّن الجوّ. لكن المدينة تصحو. عرفنا ذلك من فراشة خرجت من وراء الفحم والكتل الغائمة، استعادت لونها شيئاً فشيئاً، ورسمت حلقات صغيرة متوعكة بأجنحتها، قبل أن تنفض عنها الرماد، وتحلّق بشكل أفضل. الفراشات انتبهت إلى هجرة العصافير، فطارت في الأفق تبحث عنها، لتخبرها أن وقتاً مناسباً للعودة، قد حلّ.

من تحت ركام الكوخ، خرج يمسح عن وجهه طحلباً لزجاً، ومتعفّناً. الصياد الأخير، حالفه الحظ بأن نجا من الطوفان. حمته صفائح "الزينكو" الصدئة، صنعت له سريراً عازلًا، فغفا ولم تخرج رغوة بيضاء من تحت لسانه.

كان يتأمل الشاطئ ويستعد لكي يدفن النوارس المتفحّمة. عليه أن يفعل ذلك سريعاً، وإلا فإن النوارس لن تعود أبداً إلى هذا المكان. وحين تعود، ستعود القوارب، ويعود الميناء، وتعود المدينة..

حلّقت فراشة كبيرة هاربة صوب الشمس.. حمّلها شوقاً وحنيناً.. ظنّ أنها نظرت إليه. أقسم أنها كلّمته: "سأعود مع سرب العصافير.. حين تنتهي من كنس الشاطئ، اذهب إلى الحقل وازرع العيدان الخضراء.. تجد البراعم عند السنديانة العتيقة وسط الحديقة.. خبأتها تحت الجذور، ولم يلتهمها الحريق، في ليلة الجنون الكبرى".

تجوّل في الأزقة.. على ركامها مشى. حرّك الحجارة، فتداعى صوت أطفال يضحكون. في لحظة الانهيار، وقعت حجارة من حائط الجامع العتيق، على أطفال كانوا يلعبون في الساحة مع الحمام. ماتوا، لكنّ ضحكاتهم بقيت محفوظة بين حجارة الكلس الرطبة. كان يحرّك حجراً تلو الآخر، ويستمع إلى صدى أصواتهم في لحظات الحياة الأخيرة. عرف أنه عاش لكي يعيد النوارس والعصافير، ويحرر ضحكات الأطفال المحبوسة. فعل ذلك بتأثر، بادئ الأمر، ثم دبت فيه الحماسة الغاضبة. صار يلهث في الأزقة، يقلّب في أحشاء الركام، يتصبب عرقاً، يندفع أكثر، يبكي، يصبح كالمجنون، ينفّذ ما يفعل من دون وعي.. وحين ضجت المدينة بأصوات الأطفال الضاحكين، نظر إلى التلة المتصلة بالبحر، رآهم يعودون من خلفها، يقذفهم قرص الشمس..

Email