« آه .. زينب»

ت + ت - الحجم الطبيعي

.. وزينب تعود إلى أمها بلا رأس.. نسيت. كانت تتفرج على رقص الفراشات في "الحلبة" السحرية، التي يحتفى فيها بمن تألّم، كثيرا، كثيرا، حتى فارقته الروح، باكية لشدة العذاب، حانية، معجّلة الخلاص.

من بعيد، لمحت حمزة، وتعرّفت إلى وجوه تحيط به، تعرفها جيدا، لم تكلّمها من قبل، لكنها تشعر برباط غريب يشدها نحوها.. حياها الحشد، من الجهة المقابلة للحلبة، بابتسامة نضرة، كأنها ضوء الصبح البريء، ثم ركزوا النظر من جديد في اتجاه الفراشات.

إحداها كانت مخملية، تبرق من أجنحتها خيوط ذهبية وأخرى قانية حمراء، حجمها كما عصفور صغير، كما "الكناريا" الذي كانت تهتم بإطعامه، كل صباح، في القفص الصغير على شرفتها، في حمص. كان أخوها يضحك من تعلّقها المفرط به ويقول: "زينب.. هذا ليس ببغاء، إنه كناريا، لن ينطق باسمك يوما". لكنها أقسمت لأمها، وهي في ذلك الصباح تهم بالخروج بحثا عن الأخ الغائب في هدير التظاهرات، أنها سمعت الكناريا يناديها باسمها، بل إنه قال: "آه" أيضا.. "آه زينب".

.. وهذا أخوها، يطل برأسه من خلف حمزة. تعرفه، تكاد تطير إليه ملهوفة، ينظر إليها ويضحك، يغمرها بضحكته، ويسألها بالإشارة عن ذلك الخط المرسوم على رقبتها. تنتبه إليه، تقول بحركة شفاه: "لا تقلق.. أنا سعيدة، لا ألم"، ثم توجهه إلى الحلبة كي لا يشغل باله: "أراك لاحقا.. أمنا تسلّم عليك، وهي سعيدة من أجلك".

لا ينتبه للجملة الأخيرة، لقد ازداد هدير الفراشات. تكاثرت واصطخبت ألوانها، فبدت كربيع يستعد لكي يدوم إلى الأبد. الفراشات في الحلبة "الساحرة" أرواح بشرية معذّبة، تلفّ وتدور حتى يأتيها الخلاص، فتستحيل مجددا على هيئة ناسها الأوائل.

.. وهذا خط على ذراعيها، تكتشفه للتو. تسأل: "حين كنت فراشة، كيف حلّقت من دون جناحين؟ كيف وصلت إلى هنا؟". ثم تنتبه أن الجلد ليس بجلدها، أيضا، وتستنتج أنها حين "حلّقت" لم يكن لها جلد، كانوا قد نزعوه عنها، لذلك استحقت أن تحتفظ بجلد الفراشة. كانت زينب الحصني، تقف بجوار الحلبة، في مقابل حمزة الخطيب وأخيها محمد والأصدقاء، بجلد مخملي يبرق ذهبا، فيما تتذكر صرخة الكناري الأخيرة: "آه.. زينب"!

Email