«قزحة» فلسطينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

للأسود رائحة كما حلوى القزحة الفلسطينية. كما رائحة البن المحروق والمصفّى. كما رائحة الخصب في تراب مجبول بحكايات الأرض.

الأسود، ليس لونا للنساء المتشحات به حزنا على الأبناء المقتولين في الساحات، فقط، بل هو ذكرى لطالما أعادته إلى الطفولة الأولى..

في المطبخ، يدسّ أصابعه في قعر ركوة القهوة، ويجرف بقايا تفلها. يقلّبه بين كفّيه، كما يفعل مع المعجون، أو الألوان المائية التي توزّعها الآنسة ليلى في حصة الرسم في المدرسة.

يمسح أصابعه بطرف لسانه، متوقعا أن للتفل طعماً كما الشوكولاته، التي يسرقها من مرطبان خبأه أخوه الكبير فوق الخزانة الخشبية زيتونية اللون. اخخ..، يبصق التفل، فتتطاير حباته السوداء، وتتخذ مواقعها على الصحون اللماعة، المجليّة بيد شجاعة وقوية ومستعجلة، عليها أن تقوم بمليون شغلة: يد الأم.

ينبهها صوته وهو يتفّ في كل مكان، تدخل المطبخ ضاحكة، تأخذه من يده إلى الحمام، تنظف فمه وأنفه وما تشرذم من كتلة التفل على ثيابه، وتقول له: حبيبي.. هذا تفل القهوة، ليس شوكولاته، ليس طيبا مثلها، أسود ولا فائدة منه. لكنه حين كبر، قليلا، فهم أن أمه كانت تحتفظ ببقايا القهوة لفائدة: تعلمت من جارتها أنه مبيّض فعال لبقع تسوّد في الجلد، وفي يوم الأحد، حين يقلى السمك، تغسل به يديها، أيضا، فتطير الرائحة.

الأسود، كما التفل، كما القزحة الفلسطينية. أم مطر، علمتها، أيضا، هذه الخلطة السوداء، التي ليست كالشوكولاته، لكنها سكرية وطيّبة: تحمّص الدقيق الأسمر فيصبح ذهبا، تجبله بالقزحة المستحلبة من حبة البركة السوداء، وبزيت الزيتون النقي، وتذوّب فيه ماء سكّريا، وتصفّه في الصينية ثم تودعه الفرن، ريثما يكون قد انتهى من ضبّ ألعابه في كيسها، فيعود إلى المطبخ، ويشاركها في تقطيع العجينة الساخنة: هذه قزحة حبيبي.. فلسطينية.. سوداء لكن طيّبة، نذوقها حين تبرد.

اليوم، رائحة الطحين المحمّص، منقوشة في ذاكرته، كما صورة مضيئة للشمس تنشر أشعة الظهيرة من خلف زجاج المطبخ في وسط الصينية، فيبدو الطحين أشقر، ذهبيا، كأنه كنز عثر عليه الفتى لاكي لوك في القصص التي كان يحب مطالعتها. الأسود مخلوط بالذهب، يصبح ذهبا، كثوب الفلسطينيات.. منذ القدم!

Email