الصوت المخنوق

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعيش مع صوت. يداول الأيام مع صدى. يصاحبه كلما اختلى بنفسه. في الصالة، في المطبخ، في السرير، يشاهد معه التلفاز، يأكل من صحنه، يقرأ معه الرواية، يشده إلى خلاء العتمة. ثمة صوت لا يكف عن السؤال. بل هو، بذاته، سؤال متجدد ومستديم. سؤال عن كل شيء: الماضي، الشباب واللهو، الحاضر والمعنى، الخوف والغد. عن الأصدقاء، وجوه غابت، أغضبها الطفل الأرعن، فحملت الذكريات ومضت، وبعض من حقائب الأحلام الجميلة.. ومضت. لكن وجوها أخرى بزغت، لا تعرف الطفل، لا تسأل عنه، بل تمسّد على جبين الرجل.

يسأل، عن العائلة ووجع اللحظة المنتظر: كيف سيتصرف؟ كيف يتلقى الأخبار السيئة؟ كيف سيحمي نفسه من شرور الفقدان والأسى؟

عن الحب، يسأل. عن معناه، ولهفة المغامرة، وشوق إلى الدفء، وأمنية السعادة المستحيلة. عن أمكنة سرية في مراع بعيدة في بلاد بعيدة. هناك نهر صغير، رقراق الماء، رقيق الحس، رائق المزاج. كأنه دافق خصيصا لعاشق، تدلت رجله، وأغنيته، من فوق الجسر الصغير.

الصوت لا يريد البقاء في المدينة. يختنق في مساحاتها الإسمنتية، ويضمحل تحت السقوف الواطئة، ويتكسر على جدران الناس، الذين يخنق كل واحد منهم صوته الدفين، كل صباح، ويخرج من البيت، مزورا صوتا جديدا، مضطرا للتصالح مع جريمته.

حين يأخذه الصوت إلى فضاءات بعيدة، بين سكون قمم الأشجار وكهوف الوديان المزهرة بالفراشات.. هناك حيث تتكسر الشمس على مياه الينابيع فتتوهج، كما الكنوز الدفينة، وحيث لا رائحة إلا عطر الجذور العتيقة والتراب الخصب، ولا ملمس إلا ضلوع الأوراق تكشف عن أسرارها وحكايات زمنها، ولا صوت إلا ذلك الصوت المخنوق، يستعيد الروح، وينطلق.

الصوت، مشغول بالانطلاق، لكنه لا يلح. يعرف أن دوره لم يحن بعد. عليه أن يظل مخنوقا، فلا يفضح الصوت الآخر، بل، ومع الأيام، نشأت بينهما صداقة الضحية بالجلاد. الخانق بالمخنوق. الصوت الدفين يفعل كل ما في وسعه، لكي يحافظ الصوت الآخر على ألقه، وعلى كونه صوتا للمجموعة، أو لنقل، صوتا من ضمن المجموعة. ففي سنة البشر، أن يكتسب الصوت أهميته، طالما هو لا يشذ عن صوت المجموعة، وإلا فإنه.. مدفون للأبد!

Email