عباءة العقيد

ت + ت - الحجم الطبيعي

غطيت صحفياً أكثر من خمسة عشر قمة عربية وإسلامية، غير أن قمة «سرت» كانت حقاً القمة الأغرب التي لم أر مثلها في حياتي.

كل التسريبات، كانت تقول إننا في دولة آيلة للسقوط، ونافذة الطائرة التي كانت تقلنا عائدين من طرابلس وعلى يساري شاطئ المتوسط، الممتد لألفي كيلومتر تشي بالكثير، ولحظتها كنت واثقاً أن هذه شبه دولة ولن تبقى على الخارطة أبداً.

تتسرب لك المعلومات عن غضب زعيم عربي ومحاولته مغادرة قمة سرت، لسبب ليس هنا محل ذكره، وكيف أرسل القذافي رجاله إلى المطار ومنع مغادرة الطائرة، وإعادة الزعيم المذعور إلى القمة شبه مصفّد تحت وطأة الخوف من ارتكابه حماقة مجنونة، فتعرف أن عقل النظام السياسي مختل، ونتيجة هذا الاختلال سوف تتضح لاحقا وهذا ما رأيناه حقاً.

ولأنني أحمل بطاقة وفد رسمي، فقد تسنى لي شخصياً ان أرى القذافي، يصعد درجا صغيرا وينهال فجأة بالضرب على مدير مراسمه بقبضته وركلاً بالقدم، وكل من حوله أصابهم مس الخوف، ولم أعرف أن المضروب لحظتها كان مدير المراسم إلا في وقت لاحق، وكل القصة أن مدير المراسم داس بالخطأ وهو يمشي خلف القذافي على عباءته، فكاد أن يتعرقل العقيد على الدرج، فانهمر غضبه على المسكين خلفه، دون أن يراعي عيون الرسميين وأننا في قمة عربية.

تصعد طائرة داخلية لنقلك من سرت إلى طرابلس، دون تذاكر وهي مخصصة للوفود، فيدخلها رجال أمن القذافي مثل عاصفة، ويبحثون عن كل شخص ليبي، ويجرونه من شعره، مع إهانة، لأنهم يريدون أن يصعد شخص آخر من الوفود، والليبي هنا، مطرود وبلا قيمة، حتى لو كان مشاركا في القمة، وتم إنزال العشرات الى أرض المطار، ولربما ناموا ليلتهم فيه، والقصة تقول إن الانسان بلا وزن أو قيمة.

من جنون القذافي، وصولا الى احتقار الانسان، مرورا بتجاوزاته السياسية والدبلوماسية، وغيرها من قصص لا تحكى، كان واضحا ان النظام لن يستمر طويلا، وهذا كلام يقال اليوم، لأولئك الليبيين الذين يتهمون يمينا ويساراً دولاً عربية بكونها عبثت في الجنة الليبية، ولولا عبثهم لما سقط القذافي، ويتناسون هنا أن البيئة الليبية أساسا كانت مهيأة للسقوط، ومنخورة «من رأسها حتى ساسها» كما يقولون.

قراءة مستقبل الدول، ليست بحاجة لاستبصار روحاني، فكل القصة تعتمد على الرياضيات وحدها.

Email