تضليل سياسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

 

 

هناك نغمة سائدة أن كلفة الثورات على الشعوب العربية، كلفة طبيعية في الطريق إلى الحرية، والمقارنة تجري مع أوروبا التي دفعت أثماناً كبيرة سابقاً، في دربها نحو الحرية. والكلام تضليل، لعدة أسباب، والمقصود إدامة الانتحار القومي، باعتباره سيؤدي إلى ذات نهاية الثورات الأوروبية، والمطابقة هنا جائرة، ولا تتوقف عند فروقات التكوين الاجتماعي والديني والعرقي.

في جردة حساب يأتيك مصرف بريطاني ليقول إن كلفة الربيع على هذه الدول تقترب من 800 مليار دولار. دولة مثل العراق، ورغم بحار النفط فيها وموازنتها الضخمة، وتعهدات إعادة الإعمار، والتوافق الدولي على التغيير فيها، ما زالت دولة فاشلة. وما جرى في العراق مختلف تماماً عما جرى في دول الربيع، غير أن المطابقة تأتي من زاوية واحدة، أي زاوية سقوط دولة لأي سبب كان ومدى قدرتها على استعادة ذاتها.

الربيع وإن كان تعبيراً عن المظلومية في دول كثيرة، إلا أنه خضع لإدارة، ولم يكن تعبيراً حراً، فأخذنا إلى تحطيم ما هو أهم، أي البنى الاجتماعية، وهذه البنى بحاجة إلى معجزة حتى تعود إلى سابق عهدها، على ما في هذا السابق من مساوئ. التضليل السياسي بالمقارنة بين ربيع العرب وربيع الأوروبيين، يتناسى الفروقات الجوهرية، أي سمات الشخصية، والموروث عند العربي لا يتحدث هنا عن إشارات إيجابية حول المستقبل، وخضوع الكل لمصلحة الفرد، وانصياع الفرد لمصلحة الكل. العناوين الفرعية الحزبية والمذهبية والاجتماعية وحتى العرقية في بعض الحالات، تختطف أي تطور طبيعي للثورات.

لا يعني هذا شرعنة الاستبداد، ولا القبول به، لكننا نتحدث أن العربي كان يشكو من ضيق غرفته، فقرر الثورة وهدمها، وبعد أن هدمها لم يستطع إقامة بيت جديد، فجلس فوق خرابها. ومبررات الفشل كثيرة، من العبث الخارجي وصولاً إلى فلول كل حاكم سابق.

مؤلم هنا أن تصير المقارنة بين استبداد جزئي أو خراب كامل، غير أن المدن المحروقة، ومخيمات اللاجئين، والكراهية المبثوثة، كلها تقول إننا عدنا ألف عام إلى الوراء. التذاكي على الناس، وإقناعهم أن هذا ثمن مطلوب تدفعه الشعوب لأجل الحرية، تضليل يفتقد حتى إلى الحياء. قد نسترد عافيتنا الاقتصادية في الدول المهدومة والأموال المبددة، لكننا بالتأكيد لن نسترد عافيتنا الوجدانية، لأن الشطر والتقسيم والكراهية بلغ العظم بعد اللحم. إذا لم تكن محدثاً صادقاً فكن مزوراً حاذقاً.. هذه هي الحكاية!

Email