القطب والنصف

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل هو مخاض لنظام عالمي جديد؟ أم هي آثار جانبية طويلة للنظام العالمي الأحادي تشتد قوتها كلما ضعفت مناعة هذا النظام الذي جزم فوكوياما بأنه نهاية التاريخ؟

في النظام السابق كان الصراع بين القطبين يتبدى على أشده في المركز، بينما الأطراف نهب للمساومات والاستغلال في تحسين المواقع حول المركز، وراهناً يمكن رصد ملامح شبيهة، وإن كانت أقل حدة ووضوحاً.

فعندما وصل «الربيع العربي» إلى دولة مشتبهة الانتماء إلى أي من القطبين كليبيا، بانت المساومات أقل شراسة بين الولايات المتحدة وروسيا، ما مكن من تمرير قرار في مجلس الأمن سمح بانطلاق صواريخ «كروز» الأميركية إلى معقل معمر القذافي، لكن المساومات ازدادت فظاظة حين وصل الأمر إلى سوريا، المعقل البحري الدافئ الوحيد في العالم لروسيا، .

ومن ثم تصاعدت إلى الاستنفار العسكري حين وصل الصراع إلى المركز الروسي في القرم التي هي معبر الأسطول الروسي إلى المياه الدافئة.

على أن القطبية تعني نقيضين تماماً في مكونات وتحالفات النظم السياسية، فالتحاق روسيا بالركب الرأسمالي ما بعد «الغورباتشوفية» ينفي هذه الصفة، مع اختلاف جوهري هو اتكاء فلاديمير بوتين على منظومة تسلح سوفييتية اشتراكية، وطبقة سياسية معظمها لم تتخل تماماً عن أيديولوجية الحقبة السابقة، لجهة الهيمنة على الجوار.

إذاً، أرضية الصراع بين القطبين لا بد أن تنبت تناقضاً في النظام الاقتصادي والسياسي، يتوسع إلى رؤية أشمل للعالم والنفوذ، وهو ما يفسر ما أطلق عليه «خديعة بوتين» خلال أزمة القرم: بقي الرئيس الروسي صامتاً ومارس لعبته السرية المفضلة التي خبرها إبان عمله في «كي جي بي»، عبر إرسال وحداته الخاصة إلى القرم والسيطرة على كل القواعد العسكرية الأوكرانية والمؤسسات العامة.

من دون إطلاق رصاصة واحدة، بينما كان الإعلام الغربي يتوعد بلاده، ما دفع إلى شبه انهيار في سوق موسكو للأسهم، بعدما هرع حيتان المال الروس إلى بيع أسهمهم خشية القادم الجلل، فسارعت الشركات التي تديرها حكومة بوتين إلى شرائها وإعادة ملكيتها إلى العام، وبالتالي تقزيم القطاع الخاص.

بعدما تخلص بوتين سابقاً من بارونات المال أمثال خودروفسكي وغيره، ها هو يعيد إلى عهدة الدولة الشركات التي خرجت من عباءتها «الاشتراكية».

 تمضي روسيا بذلك إلى الاقتصاد المخطط، وإن كان لا يحمل العلامة الاشتراكية، وهي أولى مؤشرات التناقض مع القطب الأميركي الرأسمالي، وما بقي فقط قطاع صناعي خاص محاصر بإضرابات العمال الروس وضغوط الحكومة.

غير أن الطريق ليس ممهداً تماماً لبوتين لمناطحة باراك أوباما بندية، فالفجوة التكنولوجية باقية، والاعتماد على النفط والغاز كمصدر رئيس للدخل والضغط على أوروبا، يتحداه التطور العلمي واتجاه أكثر إلى مصادر الطاقة المستدامة، فضلاً عن التضخم والبطالة في الداخل. إذاً، هو نظام القطب والنصف حالياً، لكنه ينذر بنفس مخاطر القطبين.

Email