عباءة كينان

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد تجاوزه المئة من العمر، غامت تفاصيل المشهد على جورج كينان، وبات ينظر بغرابة إلى "سياسة الاحتواء" الأميركية، التي وضعها هو في أربعينيات القرن الماضي، ولا سيما حجر الزاوية فيها: لا تذل خصمك في التفاوض أو المساومة، ولا تدفعه للشعور بالهزيمة والمهانة.

ما يحدث اللحظة على الساحة الروسية، لا ينفصل عن الماضي القيصري، الذي طبق تعاليم المفكر الأميركي قبل ولادته، وذلك في نهايات القرن الثامن عشر، حين احتل الأسطول الروسي الساحل الفلسطيني الشمالي، وحاصر بيروت.

روسيا القيصرية حينها لم تسع لإذلال الأمير الشهابي، بل قبلت منه الفدية مقابل رحيل أسطولها، وعودته خارج البحار الدافئة.

راهن بعض المراقبين على رد فعل عسكري حاسم من موسكو، على ما يجري من خروج أوكرانيا من العباءة الروسية، بناء على تحليل شخصية الرئيس فلاديمير بوتين الذي لا يقبل الإهانة، لكن الرهان بدا للوهلة الأولى خاسراً للرئيس الأوكراني الهارب يانكوفتش، الذي استهجن صمت بوتين.

وعلى ما يبدو فهم الكرملين متطلبات اللعبة السياسية: أحجار شطرنجية قاتلة، تتنقل بين الساحات، للي الأذرع وانتزاع التنازلات، وفي مقدمها دفع موسكو إلى دور الدفاع لا الهجوم، وتقييد دورها الخارجي بدءاً من أوروبا، وانتهاء بسوريا وإيران.

على هذا بدا بوتين متأنياً في الرد، خشية استدراجه إلى خطأ التدخل العسكري المباشر في دولة ذات سيادة، وآثر انتهاج أقل التكتيكات كلفة: فإذا سلّم بفقدانه الحليف الأوكراني، بدلالة بقائه على مسافة وعدم لقاء يانكوفتش الهارب في بلاده والذي تلاحقه تهم تبييض الأموال والفساد.

وتجميد الحسابات في النمسا وسويسرا، فأقله عدم تسليم بوتين بخسران منطقة القرم الحيوية على البحر الأسود مقر أسطوله، وذلك عبر إثارة النزعة الانفصالية لدى هذا الإقليم، وضمان النفوذ الروسي على سواحل البحر الأسود، حتى لا تتقوقع موسكو داخل حدودها بعيداً عن حلم البحار الدافئة ولو بعد حين.

في المقابل، تؤشر تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما الأخيرة، على أنه ليس في حاجة إلى "كينان"، لابتعاد الإدارة الأميركية عن "سياسة الاحتواء"، التي تمليها اتفاقية حماية سيادة أوكرانيا في التسعينيات الماضية، مقابل تخليها عن أسلحتها النووية، وهو ما يفسر الدفع بالدور الأوروبي في هذه الأزمة.

ملامح مآل أزمة القرم هذه قد تتبدى في الشرق الأوسط، مصب جميع الأزمات، مع قدوم الصيف تحديداً، موعد الجولة الثانية من المفاوضات النووية مع إيران، وكذا مفاوضات "جنيف-3" الخاصة بالنزاع السوري، واحتمالات فتح المجال لمساومات ومقايضات بين مناطق النزاع والنفوذ.

لكن مهما حاول أوباما الخروج من عباءة كينان، فإن "المؤسسة" الأميركية ستعيده إليها على أساس معادلة "سياسة الاحتواء تساوي ثمار النفوذ"، هذه الثمار، التي تحتاج إليها بلاده جداً، بمديونيتها غير المسبوقة في التاريخ.

Email