ثمن الغياب الأميركي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل الأزمة المالية العالمية في 2008، كانت وسائل الإعلام في الدول التي تزدري النموذج الأميركي تعج بآراء وتحليلات تشتهي انهياراً اقتصادياً في الولايات المتحدة يضربها في العمق لتكف أذاها عن الكيانات الصغيرة. وبعد الأزمة، تبين للجميع أن لا مصلحةً لأحد بزعزعة أسس اقتصاد يشكل 42 في المئة من حجم الاقتصاد العالمي، وأن رفاه أميركا ينعكس إيجاباً حتى على رفاه كارهيها.

ومؤخراً، يستذكر البعض تلك الدعوات التي تشمت اليوم بتخلي الأميركيين شيئاً فشيئاً عن مقعد قيادة المنظومة الدولية، وهي التي لم تنقطع عن الصراخ في حضها على مقاومة «التوحش» الاقتصادي الأميركي، فتحولت إلى انتقاد الانفراد السياسي بإدارة دفة العالم.

يلمس أولئك المتخوفون من تشكل ثقب أسود سياسي بسبب غياب واشنطن ثمن الانسحاب الأميركي من الساحة والكلفة الباهظة لترك بعض القوى الأخرى تملأ الفراغ وهي لا ترغب بذلك أو لا قدرة لها أساساً.

إن مشاهد الفوضى في غير منطقةٍ لا يمكن إلا أن تدفع إلى التساؤل فيما إذا كان المجتمع الدولي ليعيش حقبةً أفضل لو انتصر الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة؟. بل وما الذي يمكن لموسكو أو بكين، على اعتبارهما أبرز المرشحين لإزاحة واشنطن، أن تفعلاه إن أفرغت الأخيرة الساحة الدولية لهما؟.

لقد أثبتت التجارب أن الولايات المتحدة وحدها من تملك مقومات الدولة الأكثر تأثيراً بفضل أذرعها، لا السياسية والاقتصادية والعسكرية فحسب، بل الثقافية والعلمية أيضاً، وهو ما لا تتوفر عليه روسيا والصين.

وهناك في علم التاريخ فرع يدعى «التاريخ المغاير» يبحث في سؤال «ماذا لو؟». فماذا لو نفضت واشنطن يديها من الملف الفلسطيني وأفسحت المجال للصين مثلاً؟. هل حقاً بمقدور بكين لعب دور القوة العظمى وإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟.

وما هي أوراق الضغط التي يملكها الروس والصينيون لفرض الحلول وتوقيع معاهدات السلام في بؤر التوتر المتكاثرة هنا وهناك عدا عن الغاز والألعاب البلاستيكية؟.

أما الجواب عن «ماذا لو انصرف الغرب عن أوكرانيا وأبقاها أسيرة الهيمنة الروسية الفجة؟» فيعيشه الأوكرانيون واقعاً من خلال المشهد الدموي الذي يسود البلاد ويهدد بتشطيرها، تماماً كما هو حاصل في سوريا التي تعاني ظروفاً مشابهة تكشف بؤس الدور البديل عن ذلك الأميركي، خاصةً أن تاريخ بكين وموسكو في دعم الأنظمة الاستبدادية، كعقيدة ثابتة لا كمصلحة سياسية، لا يبشر بالكثير من الفائدة على الاستقرار والأمن الدوليين.

لقد اختبر العالم، منذ قرابة الأعوام الخمسة، ما يعنيه تواري واشنطن عن الأنظار والتخبط الذي نتج عن إحجام أو عجز الآخرين عن الإمساك بالملفات الساخنة.

 والحال كذلك، لا بد من استراتيجية واضحة ومحددة لجوقة السياسيين والمفكرين الجمهوريين تضع خريطة طريق تبدأ بانتشال أميركا من «الأوبامية» في 2016.

Email