عبقرية التعويم

ت + ت - الحجم الطبيعي

من عجائب الرقعة الشطرنجية في منطقتنا ما قاله السفير السوري في روسيا: سوريا بحاجة لـ 100 مليار دولار لإعمار ما دمرته الحرب الدائرة، فصل جوانب هذا الدمار بأكثر من ثلاثة آلاف مدرسة و675 مستشفى و55 مسجداً وكنيسة.

طبعاً لم يتحدث السفير السعيد (من لقب السعادة)عن مئات آلاف القتلى والجرحى ولا ملايين المشردين، بل لم يؤشر حتى إلى الجهة المتسببة بهذا الخراب الطام لأن اللقطات المصورة المنشورة كانت ترصد القذائف وهي تدك المآذن والمدارس وكل شيء بالاختراع الجديد لنظامه: البراميل المتفجرة.

من المفهوم أن يوجه هذا السفير كلامه من روسيا، التي أبدت بعض الليونة في المفاوضات العسيرة الأخيرة بشأن السلاح الكيماوي، لمحاولة تصليب موقفها أكثر لجهة التمسك بنظام بشار الأسد، عبر الوعد بوليمة استثمارية دسمة جداً قوامها مبدئياً 100 مليار دولار.

طبعاً على سذاجة هذا التحليل في سياسة المصالح الدولية، وأن الروس يعتبرون الملف السوري معركة كسر احتكار وترسيخ قوى وعلاقات دولية جديدة تمهيداً لدفن النظام الأحادي القطب الحالي، إلا أنه يشف بوضوح عن قدرة استثنائية للنظام السوري على التعويم والمرور بين الألغام ببراعة نادرة في العالم الثالث.

ولأن هذه البراعة مستغربة فإنها غالباً ما تكون مصطنعة أو غير حقيقية على أساس أن النهايات تفسر حقيقة البدايات، ونظرة سريعة على ما آلت إليه الأمور في سوريا يوضح بعض الغباش:

بلد محوري في المنطقة على حدود إسرائيل والعراق بات مدمراً تقريباً، وكل بناه الأمنية والعسكرية في حالة يرثى لها لم تستطع مواجهة مجاميع مسلحة فقط إلا بالاستعانة بميليشيات طائفية من لبنان والعراق، والأهم من كل هذا أن جيش النظام فقد أهم أوراقه العسكرية: السلاح الكيماوي. إذن ما المانع إسرائيلياً من إعادة تعويم نظام بشار بعد تشذيب مخالبه وقلع أنيابه؟

بقوة عسكرية هزيلة تدار من قبل "مستشارين" و"قادة" غير سوريين، وأجهزة أمنية توضحت هشاشتها باستثناء البراعة في التعذيب، سيكون على النظام السوري الاضطلاع بمهمة "أميركية" جديدة:

التخلص من المجموعات الأصولية التي ترتع في مرابع بلاده، فضلاً عن مواصلة القتال ضد المعارضة السورية المسلحة إضافة إلى إعادة الإعمار، وهي مهمة مستحيلة نتيجتها الوحيدة خروج سوري تام من المشهد السياسي وربما الجغرافي مع إطلالة الوحش الطائفي المرعبة.

بقيت نقطة - للأسف - هي هامشية في المشهد السوري، نقطة تنز ألماً لصورة الطفلات الفلسطينيات الثلاث اللواتي قضين غرقاً أثناء رحلة الهروب الجديد من جحيم مخيم اليرموك. ف

ي منطق العالم، المنكوب لا يحق له سوى هجرة واحدة، وبالتالي على الفلسطيني أن يبحث عن صفة جديدة غير اللاجئ كي يتسنى له النجاة من القصف، فلا جهة تستقبله وهو يحمل بطاقة "لاجئ"، أما قيادته الفلسطينية، فتتحرك تخفيفاً لمحنته بإرسال مبعوث إلى بشار الأسد، فيما ملف عودة اللاجئين يغفو في أدراج مفاوضات واشنطن.

Email