تحليل وتحايل

ت + ت - الحجم الطبيعي

التحليل اليومي لمجريات الأحداث واحد من قوالب كثيرة، يعمد إليها الإعلام في المنافسة المحمومة بين قنواته التي ينحاز من خلالها إلى السبق، قبل انحيازه للدقة والحقيقة.

في ملاحقة الحدث المتسارع، قد يكون التحليل ومقال الرأي أكثر القوالب تعمية وتحايلاً على جمهور المتلقين، فهما إنما يصدران عن قادة رأي يتكئ عليهم الرأي العام، اعتماداً على ظنّ ما أنجزوه من حرفية وسعة اطلاع وحنكة.

وربما بحسن نية، غاب عن أكثر الكتاب حرفية، أن ملاحقة اليومي يحيلهم بالضرورة إلى القفز عن ثوابتهم، خصوصاً تجاه ما يرفضونه من قضايا جسام، والسقوط في فخ معالجة جزئيات إنما تبنى على تلك القضايا الرئيسة، لتظهر مشاركتهم في الحوار حولها حتى لو كان بالرفض، أنهم ضمنياً تجاوزوا الثوابت وأجازوا نقيضها، ومع الوقت يصبح إقرار تلك القضايا من المسلمات لهم ولجمهورهم، ليلعب التحليل دوره في التحايل على الطرفين معاً.

حدث ذلك في قضايا مركزية فيما مضى، ربما كان أخطرها الصلح مع الكيان الصهيوني، فقد تجاوز غالبية معسكر الرفض، رفضهم الصلح، إلى مناقشة ضعف التفاوض أو المطالب، على سبيل المثال لا الحصر، غير آبهين بأن ما بني على خطأ فهو بالضرورة خطأ، وليس من السداد الخوض فيه.

وما حدث آنذاك، يحدث الآن في كل وقت ومكان، ونحن نعبر مناطق ألغام ستلقي بظلال عظيمة الخطورة على مستقبل المنطقة، فما يجري يومياً على مستوى الثورة السورية، لهو دليل واحد فقط على ذلك، وإن كان صارخاً، فقد تجاوز كثيرون المطلب الأساس في تحرير شعب من نظم قمعية فاسدة تتلاعب بمقدراته، إلى التجاذب حول نزع أسلحة سوريا، متناسين أن هذ القدرات العسكرية هي جزء من مقدرات الشعب التي بدأت المطالب في الأساس من أجلها، وأن في تدميرها ابتعاداً عن تحقيق الحرية له، بل فيه إضعافه وإضعاف الأمة.

الإعلام كان السلاح الأخطر في معارك السنوات الأخيرة، ولكنه عربياً السلاح الأكثر هشاشة، وربما البندقية التي تطلق إلى الخلف، فهو إعلام تم استيراد قوالبه جاهزة دون تمحيص، من أنظمة فكرية غربية تحت دعوى ديمقراطيتها وتطورها، كما يتم الترويج لها، مقابل تخلف الأنظمة الفكرية المستوردة.

لا يفطن الجميع إلى حقيقة أن الأنظمة الغربية أصبح نهجها، إن لم يكن منذ البداية، نشر حرية زائفة أداتها إقناع الجماهير بأن خياراتها هي النافذة، في حين تقف آلة ضخمة من التزييف وراء توجيه تلك الاختيارات، وهذا مع شعوبها، فما بالنا بما ستتصدق به من وسائل تزييف على شعوب تستهدفها بالسيطرة؟ قنوات الإعلام والمشتغلون فيها جميعاً يجتهدون للوصول إلى المهنية العالية في احتراف هذه القوالب، والخروج على هذه المسلمات أصبح ضرباً من الهرطقة، وقد يحتاج الحل في حد ذاته إلى ثورة على النظم الإعلامية.

Email