مساومات

ت + ت - الحجم الطبيعي

يخيّل للمطلع على كواليس مبنى الأمم المتحدة خلال المداولات الأخيرة بشأن سوريا، وكأنه محفل للتجار كل يحمل الآلة الحاسبة لإحصاء مكاسبه وخسارات الخصوم، طبعاً بين التاجرين الكبيرين: باراك أوباما وفلاديمير بوتين.

ثمة ثمن بالطبع لقبول موسكو بقرار من مجلس الأمن يضع الملف السوري برمته بين يدي المجلس وعلى شرفة الفصل السابع، مع فتح باب خلفي لتقديم "المسؤولين" عن استخدام السلاح الكيماوي في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، هذا بالطبع بعد ضمان تجريد بشار الأسد من سلاحه الكيماوي.

يبدو على السطح أن الثمن كان بخساً، ويعكس موازين القوى على الساحة الدولية لجهة التأثير ومناطق النفوذ: فقط مجرد مكالمة هاتفية بين أوباما والرئيس الإيراني "الإصلاحي" الجديد حسن روحاني! لكن في العمق، هذا الثمن كبير جداً، ولا سيما أن العقوبات هدت الاقتصاد الإيراني، وهيأت المناخ السياسي الداخلي لنضوج الظروف على نار الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، والتسخين السياسي الذي يلوح بالانتقال إلى احتجاج سياسي هدفه تغيير طبيعة النظام في إيران.

هدية "ثمينة" جداً من أوباما حملها روحاني من نيويورك: كأس فارسية عمرها آلاف السنين، وجدت صدى إعلامياً كبيراً في طهران باعتبارها فاتحة كسر الجليد وعودة المياه إلى مجاريها. لكن أي مجارٍ.. وهي المغلقة منذ الثورة الإيرانية ونهاية عهد الشاه الحليف الأميركي المخضرم؟

جمارك التاجر الأميركي ضبطت الكأس الفارسية بحوزة مهرب، ثم عادت و"أهدتها" إلى صاحبها الإيراني بالكثير من التمنن، وفي المقابل سارع التاجر الإيراني إلى استخدام براعته "البازارية" في التقاط البادرة، وردها بمساومة عنوانها الرغبة في استرداد المزيد من التحف الإيرانية المصادرة أميركياً.

على أن هذا التداول التجاري يحمل في طياته ما هو أعمق: إيران ليست معنية تماماً بتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة، بما أنها تستند إلى تحالف دولي قوي (موسكو وبكين)، ونظام داخلي حديدي القبضة كما أثبتت فعاليتها على الأرض السورية، بل كل ما تسعى إليه هو "كوة أمل" في جدار العقوبات المفروضة عليها، من خلال إشاعة أجواء الانفراج مع واشنطن، التي قد تتسبب في تراخي تطبيق هذه العقوبات وعدم التعامل معها بالتزام صلب، كما كان إبان الشد بين الجانبين.

تبدى ذلك واضحاً حين حاولت الدبلوماسية الإيرانية بذكاء في أول اتصال مباشر مع الأميركيين، حصر الخلاف في معادلة "بحث وقف التخصيب النووي مقابل العقوبات"، وهم يعلمون أن الأميركيين تفتحت شهيتهم على كامل الملف النووي الإيراني، بعد ضمانهم وجبة الكيماوي السوري، لكن وضع عراقيل ناعمة لقطع الطريق أمام الخصم تؤخر وصوله للهدف أو تحرفه عنه، هو الفن السياسي الحديث.

هل في مقدور الذكاء الإيراني تغيير موازين القوى؟

بالتأكيد لا، فأوراق إيران تقل: على وشك خسران الحليفين السوري والسوداني، وعلاقات متوترة مع المحيط الإقليمي، ولا تواصل جغرافياً مع الحليفين الدوليين، وأزمة اقتصادية متشعبة في الحراك الاجتماعي والسياسي.

Email