العمق العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يجافي الصواب السير أحياناً عكس اتجاه الرأي العام واهتماماته، هذه التي لم تعد انتخاباً طبيعياً للفعل وردته، بقدر ما هي مخرجات "خلايا أزمة" و"أجندات" إعلامية، تبرز ما يحاك له في دوائر أخطر وأكبر تتخفى بمواقع قرار الدول الكبرى، وهو ما يبرر، بل ويفرض، على نخبنا التفكير بشكل مستقل والحفاظ على أولويات وأوليات وعينا العام: القضية الفلسطينية.

من المسلمات الفكرية في منطقتنا، أن لا استقرار ولا هدوء ولا تطور ذاتيا في ظل بقاء معضلة الاحتلال الإسرائيلي على حالها، ما يفرض على النخب العربية أن تكون حاضرة في كل مراحل الصراع الداخلي، لكننا لم نر أياً من أوراق "الربيع العربي" تحمل لون القضية الفلسطينية.

الأنكى من ذلك، أن العنوان الفلسطيني تشوش، بل وطمست معالمه في هذا الربيع حين ارتضى نفر فلسطيني الزج به طرفاً في صراع داخلي عربي. واضح تماماً أن جماعة الإخوان المسلمين تمتلك أوراقاً كثيرة لبعثرة الوضع في كل بقاع تواجدها العربية.

فبعد استبدادها السلطوي في مصر وإرباكها مسار التطورات المدنية في أرض الكنانة، ها هي تخوض حرب استنزاف على هذه الأرض، بعدما انتفضت الجماهير ضد عبثها وتفردها بكل مواقع الحكم واتباعها سياسة الإقصاء التي تشتكي منها الآن. لم تكتف بذلك، بل زجت ذراعها الفلسطينية "حركة حماس" في الصراع المصري الداخلي، ولو كان ذلك على حساب العلاقات الفلسطينية المصرية، ومئات آلاف المتكدسين على معبر رفح.

هؤلاء المعذبون في قطاع غزة، يقابلهم مئات آلاف المعذبين في الجزء الآخر من الوطن الفلسطيني: الضفة الغربية.

لا أحد يعلم ما يجري على الأرض الأميركية من مفاوضات حدد لها تسعة أشهر لحل أعقد صراعات الكون البشري، حتى بات البعض يشكك في حقيقة جريانها أصلاً، لكن الكل يعلم ما يجري في الضفة: هجمة استيطانية غير مسبوقة لنهب ما تبقى من الأرض حتى يتعذر العثور على شبر يمكن التفاوض عليه، ثم أتبع الاحتلال ذلك بهجمة تهويدية غير مسبوقة على القدس.

وتحديداً الحرم، عنوانها اقتحام المسجد الأقصى. إبان حقبة الرئيس الراحل ياسر عرفات كانت فنيات التفاوض مستقاة من نهج ثوري غابر، عنوانها "انتزع وفاوض" في ظل التمسك بالثوابت الفلسطينية، وتحديداً تلك التي تخص القدس واللاجئين ومساحة الدولة المستقبلية، وهو ذات التكتيك الذي يتبعه الاحتلال حالياً "التهِم وفاوض" على المزيد.

عادت جنازات الشهداء إلى الضفة الغربية في استفزاز مضاف، والسلطة الوطنية الفلسطينية لا تحرك ساكناً، حتى ليخيل للمرء أنها تمتلك أوراق ضغط تترى، فيما أثبت التاريخ أنها لا تمتلك سوى جماهيرها التي باتت عاجزة عن تحريكها حتى كورقة تفاوضية.

الإسرائيليون يلعبون بكل أوراقهم بموازاة المفاوضات الجارية سراً، والسلطة الفلسطينية تفتش في جيوبها الخالية.

لا شيء لدى الفلسطيني حالياً في لحظته المصيرية هذه، سوى لفظ "حماس" ورد القضية إلى عمقها العربي.

Email