البوصلة التركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يطيب للمثقفين العرب هذه الأيام الاستبسال في البحث عن المسببات أو ما قبل الحدث، كل حسب وجهته: المؤيدون لـ"الإخوان المسلمين" يفتشون في الصحف الغربية عما يدعم صورة الجماعة الضحية، والمعارضون الذين يحشدون البراهين لإثبات حتمية إطاحتها من مواقع القرار.

بالتأكيد هي معركة لكسب وعي الشارع الذي يغص بالحراك، لكنه وعي بات في ظل التعقيدات الحالية مجرد عامل من عوامل الصراع والمخاض السياسي، لا يقوى على أن يكون بيضة القبان.

صحيح أن دوائر صنع القرار في الغرب تعتمد أنظمة تكنولوجيا متطورة ومراكز أبحاث خبيرة في التخطيط للقادم أو استشرافه للتعامل الأمثل معه، لكن الأمور لا تكون دوماً على قدر يد السارق، فالمزاج الشعبي كان على الدوام التحدي الأبرز لها، العصي على التوقع التام لما يحمله من مفاجآت تستعصي على هذه الدوائر لاختلاف الثقافات. إذن ما يجري في مصر ودائرة التأثير فيها قد يكون فلت من دائرة التوقع الغربي وتحديداً لدى الإدارة الأميركية التي ما زالت حائرة في توصيف ما جرى في مصر (انقلاب عسكري أم إرادة جماهيرية) رغم المآرب التي يخفيها هذا الموقف المائع.

مؤشرات ما خفي في الموقف الأميركي تلوح من حليفها الأطلسي: تركيا. رجب طيب أردوغان الذي يعيش هاجس تظاهرات ميدان تقسيم، سارع فوراً إلى الهجوم على "الانقلاب العسكري" المصري والتشديد على شرعية صندوق الانتخاب، وزاد الأمر عن الموقف السياسي إلى احتضان التنسيق بين جماعة الإخوان وأذرعها المختلفة لوضع سيناريوهات مستقبلية لإعادة هذه الجماعة إلى سدة الحكم في مصر، بدءاً من المظاهرات الميدانية العارمة وصولاً إلى العصيان المدني.

نذر هذه السيناريوهات أطلت من ميدان رابعة العدوية عبر تدفق أطنان اللحم والأموال وبعض من تجهيزات المولوتوف والخرطوش، والأخطر تلك البلاغات المسجلة لأقفاص التعذيب لكل من يقبض مالاً ويحاول التسرب من الميدان إضافة إلى صرعة "جهاد المناكحة". محور الموقف الأردوغاني ومرده داخلي بحت، ففيما صارع نظامه لاحتواء التظاهرات المناوئة لحكمه، يظل شبح الجيش الأتاتوركي مخيماً على مرقده، ولا سيما مع التاريخ الانقلابي للجيش وما حدث لأربكان ما زال ماثلاً للعيان.

هنا تهرع ألمانيا ومن ثم أميركا لإدانة موقف الجيش المصري وعينا الدولتين على تركيا، فالألمان يخشون من انقلاب الجيش التركي العلماني وتالياً انتفاء مبرر اعتراض برلين على انضمام تركيا الإسلامية للاتحاد الأوروبي، بينما يخشى البيت الأبيض أي هزة انقلابية تركية تربك الحلف الأطلسي، وتفضيلها إطاحة حكم أردوغان من الشارع وليس انقلاباً فوقياً يبقي على جماهيرية "الحرية والعدالة". لا بديل عن الاقتناع بأن سيرورة كل ساحة تحدد بوصلتها، ولا بأس من تعليق الآمال على وعي المصريين الكفيل بتجاوز الأزمة والعودة لقيادة الأمة.

 

Email