أزمة المواطنة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في ظاهرة مناقضة لحركة التاريخ، تتعرض «الدولة العربية» على نطاق واسع لمظاهر الارتداد والتفسخ.

الدولة لم تعد في العديد من الأقطار تطابق مفهوم سيادة الشعب على رقعة الوطن، أو قادرة على تجسيد إرادته السياسية على تلك الأرض وتلبية احتياجاته، دع عنك تحقيق طموحاته الحياتية.

عوضاً عن تعزيز لحمة الوحدة الوطنية بدمج تباينات إثنية وجهوية وطائفية وثقافية متعددة، تعايش الدولة مظاهر التفسخ والتشظي.

بعد عقود على الاستقلال والنشاط السياسي الليبرالي أحياناً والموجه غالباً، تتبدى هشاشة العلاقات بين الدولة والمجتمع.

 أس ذلك البلاء هو الإخفاق في تأسيس سلطة ناجحة في صهر تلك التباينات في هوية وطنية. كل السلطات المتعاقبة فشلت في صياغة علاقة قائمة على أساس المواطنة، بل لجأت إلى اختزال هذه العلاقة الواسعة في أطر إيديولوجية أو مناطقية أو طائفية ضيقة، استخدمت في تكريسها أشكالاً من الاستبداد والقمع والترهيب أو الترغيب.

جميع هذه الأشكال يمكن اعتبارها ملاطاً يحافظ على هيكل السلطة لكنها عاجزة عن بناء الدولة، حيث تؤسس المواطنة قاعدة صلبة للانتماء والافتخار، ومن ثم تنطلق مشاعر العطاء.

هكذا عندما هبت رياح الربيع العربي وأزاحت طبقات الاستبداد والخوف، انفجرت أزمات الدولة وتناقضاتها.

إذا كانت الثورات الشعبية في تونس، مصر، ليبيا واليمن ثم سوريا، كشفت أنه ما من دولة تجنح لتعذيب مواطنيها قادرة على الثبات والتقدم مع حركة التاريخ، فإن الثورات نفسها أكدت أنه ما من وطن يبقى متماسكاً ومواطنوه متنافرون.

خيبة عارمة خيمت على الساحات الشعبية المائجة بالطموحات في دولة المواطنة الكاملة، إذ اكتشفت أنها استبدلت قصص معاناة مكرورة بخفايا فلكلورية عتيقة.

المشهد العربي الراهن مسمّن بأزمة مستفحلة إزاء إمكانية إيجاد سلطة قادرة على معالجة تناقضات الدولة المزمنة.

الخيبة التونسية لا تقل عن الفاجعة المصرية أو الصدمة الليبية أو الاحتقان اليمني. هي مشاعر الاكتئاب نفسها المتفشية في السودان، حيث فرضت التجزئة نفسها ولا تزال تنهش كيان الدولة.

هي مظاهر التفسخ ذاتها في العراق. هي ألسنة اللهب المتصاعدة في سوريا. هكذا يفضح المشهد العربي عملية الانتكاس من الدولة إلي الجماعة، بغض النظر عن انتمائية هذه الفئة.

هكذا نعايش مرحلة إخفاق جماعي إزاء إمكانية بناء دولة قاعدتها مواطَنة ملؤها المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات. كل هذه العناصر تشيع الكراهية بين المواطنين، ومن ثم تفرز جفوة أو فجوة بين الدولة ومواطنيها.

ما من سبيل لتغيير هذه الصورة القاتمة، ما لم تتم معالجة هذه القضايا المزمنة بعقلية منفتحة على جذور الأزمة وعلى العصر.

لا يكفي تصنيف الجماعات الخارجة على سلطة الدولة، بالتمرد والتشكيك في انتمائهم الوطني، في غياب مساءلة السلطة عما تقدمه لهؤلاء من حقوق واعتراف بدورهم في التمثيل السياسي، ومساءلتها عن مساهمتها في إرساء المواطنة والتقصير الفادح إزاء نشر الخدمات الأساسية وقاعدة إغاثية.

Email