الدولة والكهنة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحذير قيادة الجيش المصري من انهيار الدولة، يؤشر إلى استفحال الأزمة حد الخطر. بين الشعب المصري والدولة علاقة تاريخية حميمة، تجلت فيها كافة مظاهر الوشائج الحياتية، بما في ذلك القداسة. الدولة في مصر كائن حي راسخ الجذور في الجغرافيا والتاريخ. كائن ظل ينمو مع نظام شبكة الري، ينسرب على الأرض مع قنواتها. نظام الري المصري ظل يخضع لمركزية صارمة مستمدة من مركزية الدولة.

الدولة في مصر كائن حي يتمتع بمهابة عبر التاريخ، منذ نشوئه داخل المعبد الفرعوني. تلك نشأة تضفي عليه قدسية وهيبة لم يفقدها عبر التاريخ.

مصدر تهديد الدولة المصري الماثل، ليس خطراً قادماً من الخارج، كما حدث في منعرجات تاريخية عديدة. الخطر حالياً ينبع من الداخل. مصدر الخطر على الدولة المصرية، يكمن في القابضين عليها. حكمة التاريخ تكشف عن ضعف يعتري الدولة المصرية حين تعتكر العلاقة بين الكهنة والفرعون، أو بينهم وبين قادة العسكر، أو علاقة الكهنة بالشعب. العلاقة بين الفرعون والرعية ظلت متسقة عبر التاريخ.

جذر الأزمة المصرية الحالية يكمن في هيمنة الكهنة على الدولة. جوعهم الطويل الأمد إلى السلطة، ولَّد سعاراً نهماً إلى الاستيلاء على زمام جميع المؤسسات والشبكات المصرية، من قنوات الماء على الأرض، إلى أقنية الإعلام في الفضاء. الثورة المصرية لم تكن تستهدف استبدال نظام الكهنة بالفرعون. الشعب وجد نفسه طوال سنتين يعايش حالة من الفوضى، تبددت معها فرص الاقتراب من الاستقرار.

مع ذبول زهور الربيع المرتجى والآمال المحبطة، يستفحل الغلاء وتتفشى البطالة على نحو لم يعد ممكناً تصنيفه ضمن عبء أخطاء المرحلة الانتقالية. سعار القابضين على السلطة غير قابل للإشباع. النهم لا يزال فاغراً فاه للقبض على جميع مفاصل الدولة وازدراد كل مؤسساتها.

في المقابل، تخفق المعارضة في الاصطفاف جداراً واحداً، كما تعجز عن التلاقي على برنامج موحد. مع التوغل في التشرذم، يعزز أهل السلطة معسكرهم، بترويج الأحلام الكاذبة في أوساط بؤر العشوائيات وأحزمة الفقر. من العبث تصنيف ما يحدث بأنه معركة بين شرعية الثورة وشرعية الدولة. الدولة لا تكتسب شرعتها من صناديق الاقتراع. الديمقراطية عملية متكاملة تستهدف تنظيم الحريات، تبدأ بمراكز الانتخابات، ولا تنتهي عندها، كما يفهم التيار الإسلامي الحاكم في عواصم عدة، ويحاول انتزاع شرعية كل ممارساته عبر ذلك المفهوم. الديمقراطية لا تعني احتكار الدولة والشعب باسم الأغلبية. الديمقراطية تتجذر في الوطن باحترام حقوق الأقلية.

إضفاء الشرعية على ما يحدث في معسكر المعارضة المبعثرة، يجافي منطق الثورة. الوحدة في الهدف والشعار الطاغي على المشهد الثوري في ميدان التحرير، بهتت وتناثرت قوى المعارضة فرقاً متباعدة، إن لم تعد متنافرة.

ما يحدث في مصر ليس استثناء. الحال مطابق في السودان. الفرقة الإسلامية تحتكر الدولة، وكأنها حصلت على تفويض إلهي، وليس تفويضاً شعبياً مشكوكاً في نزاهته. النهضة في تونس تجاهد لإخضاع التونسيين إلى الأمر الواقع، بعقيدة من يحكم أبداً. النظام القابض على السلطة في طهران، يمارس كافة أشكال القمع، ليس من أجل إخماد مظاهر المعارضة، بل من أجل إسكات أصوات النقد. تحت مظلة التيار الإسلامي الحاكم، يتنفس الاستبداد والاحتكار على مستوى السلطة، وتزداد أعداد المنزلقين تحت حاجز الفقر تكدساً.

على الرغم من محاولة الجميع محاكاة الأنموذج التركي، إلا أنهم يغضون الطرف عمداً عن الحقيقة. أردوغان يكتسب شعبية في بلاده بفضل ما حققه من نجاح اقتصادي. هؤلاء لا يدركون أن الشعب بدأ العد التنازلي لأيامهم.

Email