نذر التفتيت

ت + ت - الحجم الطبيعي

كم من الخدع نحتاج لنستيقظ، وكم من الصحو ضروري لننجو مما يحاك، أو يترك نهباً لإغراء الفوضى التاريخي، حتى وإن تجملت بلبوس «الخلاقة»؟ فتحريك المياه الراكدة بات في منطقتنا معادلاً للطوفان، لا الحراك الخصب! أكثر من ساحة عربية تئن الآن بأحداث تؤشر للقادم المرعب، فلا ربيع ولا حتى خريف قادر على احتواء التغيرات والمفاجآت، بل والخدع المتفجرة، وكأننا جعلنا نهباً للريح مذ خسرنا ذاتنا الحضارية واستراتيجيتنا ورسالتنا، وارتضينا الهامش مصيراً.

كان من الطبيعي جداً أن تعاود مصر الانتفاض ضد حكم جماعة، مهما تجملت وتلونت تبقى خارج العصر ومعطياته المعقدة، كان من الطبيعي لشعب ثار على الاستبداد ونهج الإقصاء والاجتثاث، أن يكرر الصولة ضد مؤشرات عودة الاستبداد والاستئثار بالسلطة، في ظل نهم «الإخوان المسلمين» للحكم والتفرد بالقرار، واتباع نهج الحيل بإطلاق الوعود ونكثها، بينما الذاكرة الجمعية لم تنس ولم تغفر بعد لهذه الجماعة لحاقها متأخرة جداً بركب الثورة، ومن ثم القفز على أكتافها، وحصد إنجازاتها وثمارها السلطوية.

لكن مكمن الخوف هنا أن يتكرر مجدداً ذلك الانحراف الذي قاد تحالف «الإخوان-السلف» إلى مواقع السلطة، فتخرج الثورة الجديدة عن مسارها السلمي، واستدراج السلطة «الإخوانية» الحاكمة إلى صناديق الاقتراع في انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، وتجميد الدستور الأحادي الحالي، وإعداد آخر جامع للكل، تخرج نحو تشنج العصبيات الحزبية والطائفية، وتشكيل عصابات وميليشيات مسلحة، ليقضي هذا التناحر الدامي على ما تبقى من مقومات دولة قادت الشرق الأوسط في حقبة ما، بل وكتلة دولية أيضاً آثرت «عدم الانحياز» بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. في مقابل «بلاك لوك» الثائرة بأقنعة هوليوودية سوداء، يلوح قادة التيارات الإسلاموية المتشددة بميليشيا مضادة، هي في الحقيقة جاهزة منذ زمن طويل، وبانت إبان الأحداث الأخيرة المناوئة للاستفتاء الدستوري، لكنها متسلحة هذه المرة، طبقاً للتهديدات الأخيرة، بالعمليات الانتحارية!.

في موازاة ذلك، يمضي العراق بخطوات مصممة على تفجير مفاصل اللحمة والوحدة والوطنية، عبر الإصرار على نهج الإقصاء والاستهداف الطائفي والإثني، لتسيل أول دماء الانتفاضة الجديدة ضد سياسة نوري المالكي، ما يرسخ لدى خصومه هذه المرة أن لا أمان ولا استقرار في ظل التركيبة السياسية الحاكمة الراهنة، وتالياً تغذية المشاعر والمطالب بنظام حكم فيدرالي، تتمتع في ظله الأقاليم باستقلاليتها «الحامية» من تسلط المركز. أما في سوريا، فالأمور أكثر وضوحاً، رغم تعقيد المشهد العسكري، فسياسة التحكم في صنبور الدعم أوصلت الجميع تقريباً إلى حافة اليأس من الغلبة على الأرض، بالتزامن مع تواتر التصريحات الأوروبية والأميركية المخففة عما قبل. كل ذلك لا مخرج منه سوى مائدة المفاوضات بين الخصوم، لتقاسم كعكة الوطن وترابه على حد سواء، إن لجهة اتباع نموذج «الفدرلة» العراقي أو غيره، المهم انتصاب الحدود داخل الوطن السوري لا خارجه، لمنع المجازر الطائفية والعرقية.

إذن، ثلاثة نماذج في ثلاث ساحات عربية مؤثرة، تدفعنا لوضع الأيدي على القلوب، مع تلمس نذر التفتيت.

 

 

Email