لا تقاسم بل تقسيم

ت + ت - الحجم الطبيعي

خديعة أخرى زادت من أزمة الفكر العربي وعدم مقدرته على مجاراة التطورات المتسارعة في منطقته، ومآلات التناقضات والتقاطعات والتحالفات الجارية على جلده، حتى تقزم الهدف إلى محاولة فهم ما يجري، لا التهيؤ له بالخطط المضادة والتحصين الداخلي.

الحالة السورية أكثر النماذج إيلاماً للعقل العربي، بعدما باتت كل يوم تتكشف ملابسات أشد غرابة وريبة مما يحصل على الأرض من مجازر لا سابق لها، ولا لاحق ربما.

في بداية الثورة السورية كانت المواقف العربية والدولية، وتحديداً الغربية واضحة تماماً، العرب تتقدمهم دول الخليج التي أعلنت بوضوح تام دعمها للشعب السوري في انتفاضته ضد الظلم والسحق والبطش الوحشي، وسعت جهدها لإيجاد حل عبر الجامعة العربية وبعثة مراقبين وغيرها.

الأمر مشابه في البداية لدى الأميركيين الذين أعلنوها صراحة بأن على بشار الأسد أن يرحل، من دون تبعات لهذا الموقف ولا استحقاقات، بينما بقي الموقف التركي على زئبقيته في تهديدات تتطاير مع الريح إلى حدود اللافعل، لكن ما إن تغيرت موازين القتال على الأرض السورية لمصلحة المعارضة، حتى تبدلت المواقف بدراماتيكية تعجز عنها هوليوود..

ففجأة وجهت الأضواء نحو «جبهة النصرة» وما تشكله من تهديد على مستقبل سوريا، كونها ذراع تنظيم القاعدة، فضلاً عن تواتر التقارير عن انتهاكات يرتكبها الجيش الحر في المناطق المحررة، ثم ما لبث ميزان القوى أن تغير لمصلحة النظام، وتحديداً في دمشق وريفها، في ظل تقارير موثوقة عن ميليشيا من العراق وإيران وحزب الله اللبناني، تقاتل بشراسة في أحياء العاصمة السورية، ولا سيما محيط السيدة زينب، وتحرز تقدماً في مواجهة الجيش الحر، الذي أطلق قادته غير مرة صرخات الاستهجان من توقف وصول المال والسلاح إلى مقاتليه.

إذاً، ما زال النزاع في سوريا يدور حول فلك «لا غالب ولا مغلوب»، أي كلما رجحت كفة فريق تحركت الظروف الموضوعية، وربما الذاتية، لترجيح الكفة المقابلة، لتصلا في منتصف الطريق إلى التكافؤ القاتل، الذي يطيل أمد النزف.

من الذي يتحكم في خيوط اللعبة هذه؟ لقد كان الدعم الأميركي، سواء المالي أو العسكري، خطاً أحمر لدى البيت الأبيض منذ البدء، والاكتفاء بالدعم الإنساني أو اللوجيستي، بينما الخصم الروسي يرسل سفنه الحربية تباعاً محملة بأشد المعدات والأسلحة فتكاً، وإيران تعلن عن المليار الحادي عشر من المبالغ التي ضختها في خزائن النظام السوري.

الثوار لم يجدوا سوى العرب مغيثاً والنزر التركي اليسير، في مقابل جسور إمداد بشرية ومالية وآلية تنتصب ليل نهار لخصمهم، ولو وصلهم ربع ما تحمله لحسموا المعركة في أشهر معدودة، بعدما حققوا ما حققوه من إنجازات عسكرية بأسلحة فردية وأخرى مغنومة من معسكرات الشبيحة.

يبدو أن المطلوب هو بقاء كل الأطراف المتنازعة في سوريا قوية، وتمتلك الندية لكي تضطر إلى الجلوس على مائدة التفاوض. لكن الأخطر هو ما أثير في بعض التصريحات حول «خطر تقسيم سوريا»، وعليه يخشى أن يكون الجلوس المنتظر على المائدة لا لتقاسم السلطة في سوريا، بل تقسيم سوريا نفسها، في موازاة «الفيدرالية العراقية».

 

Email