رحلة التيه المزمنة

ت + ت - الحجم الطبيعي

جلست حافية القدمين والصقيع يحاصرها بكل ما في وسعه من لسعات، تلم ما استطاعت من لفائف أو علب نصف فارغة، وقماشة رثة تلتف على كسرات خبز، وآلة نار بدائية تنتظر أي قدر تغلي، ولو تلك النائمة في قصص الأطفال عن غلي الحجارة لتنويم أمعاء الصغار. مشهد اعتدناه كثيراً لفرط التكرار، لكن ما لا يمكن لضمير آدمي اعتياده هو تلك الكلمات النازفة: كنا في مخيم تل الزعتر حين دكتنا قوات حافظ الأسد فهربنا إلى مخيم صبرا وشاتيلا، وهناك لم نكد نوزع أغراضنا على المساحة الشحيحة التي منّ علينا المنفى بها، حتى نجونا بأعجوبة من حراب أرييل شارون و«الكتائب»، فكان المهرب الجديد نحو مخيم اليرموك في سوريا، وها نحن نفر مجدداً إلى أي متر يقبلنا في لبنان.

هي لا تعي كثيراً الأبعاد وما وراء المجريات، لا تشارك في مؤامرات، ولا في الأحداث، مذ هجّرت من أرض أجدادها وهي تستجدي أي مكان، فقط لتتنفس وتأكل القليل.. وتحلم بالعودة إلى البيت.

علمتها المنافي، في ظل النزعة العنصرية العائدة هذه المرة في لبنان تحت ذريعة التهديد بعودة الفلسطيني، أن هذا المخلوق يجب أن يتطور بيولوجياً على غير الصورة التي خلقه الله عليها.. ينبغي أن تنبت له أجنحة لكي يطير إلى جزيرة ما حال ملاحقته مجدداً طلباً لحصة جديدة من دمه، فلا يمر في أرض الآخرين وهو هارب غريزياً من الموت، حتى وإن خدعه واضعو الكتب المدرسية بـ«بلاد العرب أوطاني».

ما يحدث في سوريا لمخيمات الفلسطينيين، وما هو حادث منذ عقود في مخيمات البؤس والفاقة في لبنان، يذكر القيادة الفلسطينية في رام الله، بأن الشتات يضم -على مضض طبعاً- ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني، الذين لا تمثلهم السلطة الوطنية الفلسطينية، بما أنها قصر على القاطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة. هؤلاء الذين لطالما تمسكوا جزافاً بإطار جامع لهويتهم، يدعى منظمة التحرير الفلسطينية، التي تم اختصارها في "سلطة" ضيقة على أرض لا تزال هويتها حائرة بين المحتلة والمحررة.

في مفاوضات كامب ديفيد الشهيرة، صمد ياسر عرفات بشراسة، ورغم ضغوط وحصار بيل كلينتون وإيهود باراك، أصر على أن عودة اللاجئين في مخيمات لبنان إلى منازلهم الأصلية هي من المسلمات وخارج المفاوضات، ويقال إن كلينتون نفسه أبدى ليناً تجاه ذلك، نظراً لبؤس حال هذه الفئة التي لم يشفع لها دورها في إحداث نقلة نوعية كبيرة في مناحي الحياة اللبنانية؛ الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حين انزاح رأسمال الساحل الفلسطيني إليها على أثر النكبة.

هل تكفي مطالبة الرئيس محمود عباس، الأمم المتحدة بالسماح للاجئي سوريا بالهرب من الصواريخ نحو أرضهم الأصلية، لكي تكون منظمة التحرير أدت دورها؟

منظمة التحرير مطالبة باستعادة روحها وهيكلها أولاً، وإنذار العالم باسم الشتات الفلسطيني، بأنه لن يبقى نهباً لنكبته وللصراعات الداخلية في المنافي، حتى ولو على سبيل التلويح بمسيرات عودة لن تكون نهايتها فجائعية بقدر ما هو راهن.

لا أرض تبقت لمضي الفلسطيني في رحلة التيه المزمنة، لا أرض سوى أرضه، يزحف إليها فوق التراب.. أو تحته.

Email