دمعة زينة يازجي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تختمُ المذيعة الرائقة، زينة يازجي، حلقة الأَحد الماضي من برنامجها "الشارع العربي" في تلفزيون دبي، بالاستماعِ من ضيفِها الكاتب السوري المعارض، ميشيل كيلو، لحكايته البالغة الأَسى، عن طفلٍ عمرُه نحو خمس سنوات، حبيسٍ منذ ولادتِه مع أُمه التي أَخذَها النظام الأَمني الحاكم في دمشق رهينةً، للضغط على والدِها المطلوب للمخابرات والهارب.

كان كيلو محتجزاً في فرعِ التحقيق العسكري في دمشق، وذات ليلة اصطحبه حارس، كان يعطفُ عليه بقصاصة أَظافر وحبّات تفاح، إِلى زنزانةٍ فيها الأُم وطفلها الذي حاول ميشيل كيلو أَنْ يحكي له "حدّوتةً" عن عصفورٍ على شجرة، إِلا أَنَّ الصغير سأَله: ماذا يكون العصفور وماذا تكون الشجرة؟، فليس في معجمِه ولا في ذاكرتِه مثل هذه المسميات. ببساطةٍ، لأَنه عاشَ عمرَه الغضَّ في السجن، وأَبصرت عيناه (النور؟) فيه.

طفرت دمعةٌ من عيني زينة يازجي، لما سمعت هذا، فناولها ميشيل كيلو منديلاً لتمسحَ تلك الدمعة التي أَحدثها الإنصاتُ إِلى واقعةٍ لا تقدر أن تجترحَها مخيلاتُ روائيي الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية.

وتُذكرنا، غصباً عنا، بأَسيراتٍ فلسطينياتٍ وضعن مواليدَهن في سجون إِسرائيل، إِحداهن أُفرج عن طفلها لمّا وصل عمره إلى عامين ونصف العام، وبقيت هي لتكملَ محكوميتها الأَربع سنوات، ولم يكن يعرفُ أَنَّ ثمّة حياة أُخرى في غير عالم السجن. وتذكرنا الحكايتان، غصبا عنا أَيضا، بقولةِ العلامة هاني فحص، مرَّةً، إِنه لا فرقَ بين النظامين الصهيوني والسوري.

لا يقدرُ الإعلاميُّ أَنْ يكون بارد الأحاسيس، كما مشاعر أَهل البلطيق بشأن حادث سيرٍ في ميكرونيزيا، ومدهشٌ أَننا، المشتغلين في الصحافة والإعلام، ومنا زينة يازجي، لم تعد تستنفرُ مشاعرَنا أَعدادُ القتلى اليوميين في سوريا، فيما تهزُّ وجداننا وجوارحنا عدم معرفةِ طفلٍ مأسور في زنزانةٍ سوريةٍ العصفور والشجرة.

تماماً كما تتسرَّبُ إِلينا مشاعرُ خوفٍ وقلقٍ في مشهدٍ سينمائيٍّ عن لحظةِ اضطراب صبيةٍ وحيدةٍ في منزلها في فيلم متقن الإخراج والمؤثرات الصوتية، من إِيقاع قطراتِ ماءٍ وخطواتٍ مفاجئة في خارج غرفتها في ليلةٍ موحشة.

 وتلك قراءَتُنا روايةَ السوري مصطفى خليفة (القوقعة) أَصابتنا برعبٍ غير هين، فيما دلفت الأَخبار عن مقتل مائةٍ اليوم ومثلهم أَمس وغداً في رتابةِ العادية، حتى إذا باغتنا حكيمُ الثورة السورية، ميشيل كيلو، على شاشةِ تلفزيون دبي، بحدوتة ذلك الطفل، فإِنه يجعلنا نتحسَّسُ أَبداننا إِن كنا في عالم افتراضيٍّ أَم حقيقي، ويجعل عيني زينة يازجي ترتعشان بدمعةٍ مشحونةٍ بحسٍّ بالغ الرهافةِ وبشعور إنسانيٍّ حنون.

مروياتُ أَدب السجون السورية صارت وفيرةً في كتبٍ لضحايا هذه السجون ممن لديهم ملكةُ الكتابة، وباتت لها صدارتُها في مدوَّنةِ الأَلم الإنساني في معتقلات الاحتجاز الرهيبة. ومن جديدها كتبُ اللبناني علي أبو دهن والسوريين ياسين الحاج صالح وفرج بيرقدار، وأَحدسُ أَنَّ ميشيل كيلو روى إِضافة موحية وباهرة، بدليل دمعة زينة يازجي.

 

Email