الديمقراطية والانتماء

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يوجد مكان للون الرمادي في عصر الثورات العربية. فوقوف الأقليات على الحياد أو بالضد، بدعوى الخوف مما يحمله المستقبل، زعمٌ مردود وخطير، لأن الرسالة السيئة التي سوف تصل إلى الأغلبية هي أن جحيمها هو نعيم للأقلية، التي استبدلت انتماء الوطن باللوذ بدكتاتور لصالح هامش وهمي من الاستقرار.

وفي هذا الخيار أنانية مفرطة، إن لم يكن استعداءً للمجتمع، الذي يفترض لتلك الأقليات أن تؤكد انتماءها إليه بينما تدعي تجذرها فيه، خاصة أنه لم يسبق لأي ثورة في التاريخ أن قدمت ضمانات مسبقة، لأنها بكل بساطة فعل عفوي بمخاضٍ عسير يسعى إلى اجتثاث الظلم، وهو ما ستستفيد منه بالضرورة كافة فئاته، اللهم إلا تلك المتضررة من التغيير.

وإن كان الجنوبيون في اليمن والأمازيغ في ليبيا والأقباط في مصر، كافحوا على مدى أعوام طويلة لدفن التهميش الذي عانوا منه، فإنه عصي على الفهم حقاً ذلك النكوص عن التزاماتهم تجاه ثورات قامت لرفع الحيف، بتبريرات عتيقة عن ذلك المجهول القادم.

 وعليه، تحالف الحراك الجنوبي مع فلول الرئيس اليمني السابق الذي لطالما اشتكوا من «مذابحه»، ورمى الأقباط بكل ثقلهم الانتخابي وراء المرشح الذي اعتقدوا أنه سيكمل مسيرة الأمان، وهم الذين لم يتوقفوا يوماً عن الحديث عن اضطهاد النظام السابق لهم، فيما فضل الأمازيغ البقاء في الصفوف الخلفية للثورة، رغم أن نظام العقيد اعتبرهم في أغلب الأحيان مواطنين من الدرجة الثانية.

وفي سوريا، تصرف أنصار حزب العمال الكردستاني، بجناحه السوري المسمى «الاتحاد الديمقراطي»، بطريقة أثارت، ولا تزال، الكثير من الشك في نفوس أكراد الحراك، فضلاً عن بقية أركان المجتمع السوري الأخرى، بتواطئه مع النظام رغم أنه صاحب مشروع كردستان الكبرى.

وإن سلم البعض بالادعاء القائل بأن العلويين في سوريا ضحية للنظام الذي يستخدمهم وقوداً في حربه ضد الشعب، فإن هذا هو عين السبب الذي استوجب انضمامهم إلى الثورة، بدلاً من أن يوصموا هم القلة القليلة بـ«الخيانة» من الطائفة التي غامرت بالجهر بمعارضتها، على اعتبار أن الإطاحة بالحكم الحالي ستحررهم في نهاية المطاف من «أسر» النظام، ومن تلك النظرة التي لصقت بهم من أنهم رأس حربته.

ولعل ما يوصف بـ«نأي» المسيحيين السوريين عن أنفسهم تجاه ما يحدث في وطنهم، يرسم أكثر من إشارة استفهام بشأن الاستراتيجية التي اتبعها النظام لأكثر من أربعة عقود، وسموم التفرقة التي دسها في دسم «رعايته» للمسيحيين.

ويتذكر السوريون كيف تصدى رجل دولتهم فارس الخوري، لهرطقات الجنرال الفرنسي هنري غورو حينما زعم أنه جاء لحماية مسيحيي المشرق، فما كان من الخوري إلا أن صعد على منبر الجامع الأموي في دمشق ونطق الشهادتين. أما اليوم، فتخشى الأغلبية المسلمة أن تُصلب فداءً لعائلة، بسبب الموقف السلبي من الثورة لشركائهم في الوطن، بحجة أن إسلاميين متطرفين قد يتولون مقاليد الحكم.

يبقى، أنه وعوضاً عن اجترار الأسئلة عما تحمله الثورات في جعبتها من مكاسب أو مخاطر، كان من الأحرى أن يسلط الضوء على الأسباب التي دفعت الأقليات إلى اتخاذ مواقف معادية من التغيير بشكلٍ أنتج «أصولية أقليات»، منطلقها غياب زعماء وطنيين بين ظهرانيها.

Email