في أربعين غسان كنفاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

مرَّت، الأُسبوع الجاري، الذكرى الأَربعون لاستشهاد غسان كنفاني، وهي مناسبةٌ للتأكيد على وجوبِ حماية منجز هذا الكاتب الفلسطيني وكفاحِه من النسيان، وعلى أَنْ يبقى في مطرحِه خالداً في الوجدان الثقافي العربي. ولا يعود هذا إلى فجائعيةٍ بشأنه.

وقد اغتيل في جريمةٍ إِسرائيليةٍ، بل لما اتَّصفَ به أَدبُه من قيمةٍ جماليةٍ عالية، ما يجعل رواياتِه ومجموعاتِه القصصية، عيوناً مهمةً في مدوَّنةِ السرد العربي الحديث، وقد كان مهجوساً بالمعاييرِ الفنيةِ الخالصةِ في كتابتِه الإبداعيةِ، التي تنوَّعت فيها طرائقُ التجريبِ وتقنياتِ القصِّ والحكي.

ودلَّت معرفةُ غسّان بهما على ثقافتِه الرفيعة، واطلاعه المكين على تجاربَ عالميةٍ وعربيةٍ ذات مكانة. وقد ذكر فضل النقيب، وهو أَحد رفاقه، أَنه كان يكتبُ كثيراً ويُمزِّق ما يكتب، في طموحٍ إِلى ما هو أَجمل وأَكثر حيويةً في التعبير عن بعضِ ما يريد.

وإِلى رواياته الأَربع ومجموعاته القصصية الأَربع، له رواياتٌ ومجموعاتٌ لم تكتمل، وصدرت بعد غيابه. كما كتب مسرحيتين وكتاباً عن ثورة 1936 الفلسطينية، وآخر عن الأَدب الصهيوني يعدُّ دراسةً مبكرةً عربياً، ولافتةً للانتباه إِلى هذا الأدب، وثالثاً عن أَدب المقاومة الفلسطينية، كان إِطلالةً نقديةً رفيعةً على التجارب الأولى لمحمود درويش وسميح القاسم وغيرهما.

مدهشٌ في عالم غسان كنفاني وسيرتِه، أَنه استُشهد عن 36 عاماً، لكنه أَنجز في الرواية والقصة والبحث والنقد والمسرح وأَدب الأطفال، أَعمالاً كثيرة، ومهمةً في الأدب الإنساني العالمي، فاستحقَّ كثيرٌ منها ترجمتَه إِلى أَغلب اللغات.

وإِلى هذه الإبداعات، كان الراحلُ الكبير كاتبَ مقالةٍ محترفاً، فقد عمل صحافياً وترأس تحرير مجلة الهدف التي كانت تصدر عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وفي مُنجزِه في هذا اللون من الكتابة، ثمة سمتٌ من السخرية الذكية تتوازى مع عمق الفكرة والموقف.

ويعجَبُ المرءُ حين يتجوَّل بين حدائق هذا كله، مما تركَه غسان كنفاني، والتي يضاف إِليها أَنه كان رساماً أَيضاً وله لوحاتٌ رائقة، مع أَن صاحبها كان منخرطاً في العمل السياسي والتنظيمي الكفاحي، فقد انتسبَ إلى حركة القوميين العرب، ثم صار قيادياً في الجبهة الشعبية. ومن الوثائق النادرة له، حديثه بالإنجليزية لمحطة تلفزيون أَجنبية عن نضال الشعب الفلسطيني، وعن إِسرئيل وعدوانِها، بكيفيةٍ مكينةٍ أَظهرت حذاقته في إِطلاق خطابٍ أَخلاقي ووطني فلسطيني إلى العالم.

ولأن غسان كان كاتباً كبيراً على سويةٍ ثقافيةٍ رفيعةٍ، وصاحب حيويةٍ كفاحية نادرة، عرفت إِسرائيل خطورته، واغتالته بتفجير سيارتِه في يومٍ تموزي بعيد في الحازمية في بيروت. ولأن في تراثه الوفير ما يضيءُ على الهوية الفلسطينية، فإِن إِبقاءَ أَعماله وأَفكاره وسيرتِه في الضوء، يصير واجباً مهماً في الصحافات والفضائيات العربية، سيما في حالٍ مريعٍ من التردّي في الحالةِ الفلسطينية، وفي الثقافة العامة لدى جمهورٍ عربي عريض، معيبٌ أَنْ يجهلَ سيرة غسان كنفاني وأَدبَه البديع.

 

Email