التباساتٌ لبنانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تقرأ روايةَ اللبناني، ربيع جابر، "دروز بلغراد، حكاية حنّا يعقوب"، فتجدها تستعيدُ حرباً أَهليةً لبنانيةً في 1860 بين المسيحيين والدروز، قتل الأَخيرون فيها أَعداداً غفيرةً من أولئك. تستذكرُ الروايةُ معاقبة السلطة العثمانية الدروز، بنفي 550 منهم إِلى قلعة بلغراد في بلاد الصرب، ثم استخدامِهم هناك في أَشغالٍ عديدة.

وفيما تُطالع عن أَسىً وعذابٍ غزيريْن لحق بهم، وبالمسيحي حنّا يعقوب الذي تمَّ دسُّه بينهم، يبلغك تقريرٌ صحافيٌّ، أُعدَّ بمناسبة اكتمال مائة عام، السبت الماضي، على غرق الباخرةِ العملاقة الفاخرة تايتانيك، أَنَّ العرب الوحيدين على متنِها، في أَثناء إِبحارها إِلى نيويورك من لندن، لبنانيون (ومصري واحد)، وكانوا 92 شخصاً، من بين 2200 راكب، قضى منهم 59 من بين 1514 ضحيّة. تتصادف قراءتك عن تلكما المأساةِ والحربِ التي تخللتها مذابحُ، وسبقتها مثيلةٌ لها في 1840، مع مراجعةِ اللبنانيين الحربَ الأهلية في بلدِهم، في ذكرى اندلاعِها الـ37 الخميس الماضي، والتي قضى فيها نحو 150 أَلفاً، وفقد 17 أَلفا.

وتعجبُ من أَنَّ سمير جعجع وحدَه، من بين نجوم تلك الحرب، من أَعلنَ اعتذاراً عما اقترفَه خلالها، وفي البال أَنَّه وحدَه من بين نظرائِه (ما أَكثرهم!) عوقبَ بالسجن أَعواماً، في حكم قضائي على واحدةٍ مما ارتكبَ في الحرب.

ترى في الاحترابِ العتيق بين الدروز والمسيحيين، وفي غرقِ لبنانيين في "تايتانيك" التي ما كانت لتشتهر لولا فيلم جيمس كاميرون عنها، وكذا في حربِ 13 نيسان التي طالت 15 عاماً، ترى أَنَّ اللبنانيين مزمنون في اقترافِ حروبٍ فيما بينهم، ومنها نزاع 1958، وأَنهم ربما الأكثرُ توزّعاَ من بين العربِ في مغترباتٍ عديدةِ وبعيدة، منذ عقود مبكرة، وأَسفارُهم، للعمل والإقامة، إِلى البرازيل والأَرجنتين، وإلى ساحل العاج ونيجيريا، أَمثلةٌ مرتجلةٌ هنا ودالةٌ. وفي وسع مؤرخين حاذقين، وروائيين من طراز ربيع جابر ربما، أَنْ يقعوا على ما استهوى أَشخاصاً من بلداتٍ لبنانية في السفر في "تايتانيك" قبل مائة عام.

ولمّا كانت حكايتُهم المنسية تلك، وكذا مقتلة الدروز والمسيحيين في القرن الثامن عشر، ومثلهما الحرب الأَهلية الأَقرب، لمّا كانت هذه الوقائعُ تنتسبُ إِلى التاريخ، فقد لا يُفاجئنا غيابُ اتفاقٍ على المروياتِ بشأنها، فالتنازعُ بين اللبنانيين ليس مقصوراً على الراهن، ولا تستطيعُ زعاماتُهم، في استقطاباتهم إِيّاها، أَنْ تتخفّف من المهرجاناتِ الكلاميةِ ضد بعضِها، بل ثمّة تنازعٌ عويصٌ بشأن الماضي.

 وفي البال أَنَّ المناهجَ المقرَّرة على التلاميذِ اللبنانيين في مدارسِهم بلا كتابِ تاريخٍ موحد، ودلّت تظاهراتٌ في بيروت، قبل أَسابيع، ضد كتابٍ مقترحٍ، على أَن اتفاق اللبنانيين على ماضيهم ما زالَ بعيداً، ما اضطر الحكومةَ لسحب الكتاب. كأَنَّ المطلوبَ أَنْ يتواطأَ اللبنانيون على تاريخٍ توافقيٍّ، يكتبونه ولا يرمي مسؤوليةً في أَيٍّ واقعةٍ، على هذه الجهةِ أَو تلك الطائفة.

لنتذكَّر أَنَّ إِنجاز كتابَ تاريخٍ موحد للبنان، استحقاقٌ يفرضُه اتفاق الطائف الذي قيل إنه أَنهى الحرب الأهلية، لم يفلح اللبنانيون في ذلك، وربما لم يعتنوا بالأمر الذي قد يحسبونه هامشياً. ولنتذكر أَنَّ بذلَ جهودٍ مشتركةٍ لكشفِ مصائر مخطوفين ومفقودين ومشتبهٍ بأَنّهم في سجونٍ سوريةٍ، نصٌّ مثبتٌ في وثيقةِ التفاهم (أَو التحالف؟) بين حزب الله وتيار ميشيل عون، ولم نطالعْ يوماً أَنَّ أَحدَ الطرفين تذكَّره.

هذا الشأنُ، وما استدعته هذه السطور، من بعض أَحاجي هذا البلد العربيِّ الصغير، المتعبِ بضعفِ بنيةِ الدولةِ فيه، والمدهشِ في إِبداعاتِ فنانيه وأُدبائه، سوَّغَ الإتيانَ عليها، هنا، ما تراكمَ في الأيام الماضية من التباساتِ التاريخ والراهن، حضر فيها كلامٌ عن غرق لبنانيين في تايتانيك قبل مائة عام، وكلامٌ عما يمكنُ أَنْ يُحصِّنَ لبنان من زوابع مستجدّات إِقليمية، هل من يعرف؟

Email