عن أحمد راشد ثاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

يُفاجِئُك صديقٌ بمكالمةٍ يُخبِرك فيها أَنَّ أحمد راشد ثاني مات، فتصيبُك المباغتةُ باللعثمة، فتطلب من الصديق أَنْ يتأَكَّد مما يقول، فتُستدعى إلى خواطرك هواتفُ مماثلة، حملت نعي أصدقاء ومعارف وأَحباء في غير بلدٍ ومطرح، ما زلتَ حريصاً على أَلا تُزيل أرقام هواتفِهم من المحمول بين يديك، فهي، بحسبِ قصةٍ قصيرةٍ للصديق محمود الريماوي، أَطال الله عمرَه، وديعةٌ، فقد يحدثُ أَنْ أُحاولَ التحدّث إلى أَيٍّ منهم، ثم أَبتسم، وأَدعو لهم بالرحمة، ماهر عبدالله وجوزيف سماحة وصلاح حزين وفكري كرسون مثلاً.

ينضمُّ إِليهم أحمد راشد وكلي حزنٌ غزيرٌ عليه، وإِحساسٌ شديدُ الوطأَةِ بفقدِه، لا لأَنَّه كان صديقاً مُحباً فحسب، بل لأَنَّه حالةٌ إنسانية بديعة. كنت أَنجذبُ إلى مزاجِه الهادئ، والذي يحدثُ في مطرحٍ ما أن تتسرب إليه بعضُ الحدّة، مع البهجةِ المعتادة، والتي تأتي عفو الخاطر في مزحةٍ أو نميمةٍ عابرة. وأَنْ يرحل أحمد راشد، فذلك يعني خسراناً كبيراً للشعر في الإمارات وللمشهد الثقافي العربي، ولا شطط في هذا الكلام، فالفقيدُ على ما كان يبدو عليه من أمارات العبث والاستخفاف بالأَشياء، كان شديدَ الوفاء للكتابةِ وللشعر، ويُدهش مُجالسيه بقراءاتِه المتنوعةِ ومتابعاته الجديدَ من الإصداراتِ في غير حقلٍ معرفيٍّ وجنسٍ أَدبي، وهو الذي تعدَّدَ منتوجُه في الشعر والمسرح معاً، عدا عن أبحاثه ذات القيمةِ التوثيقية والمعرفيةِ في تراث دولة الإمارات المحكيِّ والشفوي.

لقاءاتٌ وجلساتٌ وسهراتٌ عديدةٌ في أبوظبي والشارقة ودبي وعمان، يأْخذُك فيها أحمد بأُلفةٍ باهرة، وبساطةٍ ظاهرة، تتيَّقنُ فيها من إِخلاصِه لقناعاتِه التي لا تعبأُ بالتواطؤاتِ والمداهنات إِياها، ولذلك، صحَّ ما جاءَ في نعي اتحاد كتاب الإمارات له أَنه «ممن أَعطوا الكثير ولم يطلبوا شيئاً، بل ولم ينتظروا شيئاً". اكتفى باسمِه شاعراً وكاتباً ومسرحياً وباحثاً، كان يُفكر خارج الصندوق، ويجدُ مخاطرَ تُهدِّدُ الثقافةَ المحليةَ لوطنِه الذي أَحبَّه، وينحازُ إلى صيغةِ المثقفِ المتمرِّدِ على النص.

ويراها الأَنسبَ لشخصِه وتنسجم مع رؤاه وتصوراتِه في غير شأن. وعارفوه وأَصدقاؤه منذ بواكير كتاباتِه، وأُولى مناشط حيويَّتِه الثقافية وقعوا على سمتِه هذا، في تلك الغضون التي شغف في أَثنائها بالمسرح، فكان من مؤسسي «المسرح الحر» إِبّان كان طالباً في جامعة الإمارات. ولا يجدُ قراؤه لاحقاً عُسراً في الوقوع على ولعِه بالتجريبِ والتحديثِ في الكتابة، وفي الإبداع في طرائق التفكير في الشأْن الثقافيِّ عموماً، وكيفيات تفعيلِه والإِضاءَة اللازمة عليه، بكل تنويعاتِه.

سمعت، كما غيري، أحمد راشد يقرأُ شعره، وقرأْت، كما غيري، مجموعاتٍ له، غير أَنَّ فرصاً لم تتيسّر لمشاهدةِ نصوصِه المسرحية على الخشبة، ومنها «الأَرض بتتكلم أُوردو» و«اِلعب وقول الستر» و«قفص مدغشقر»، ونظنُّ أَنَّ أَحسنَ تكريمٍ للراحل الذي غاب عن دنيانا عن خمسين عاماً، وفي ذروةِ عطائِه، يكونُ بالمبادرةِ إلى إِعادةِ التذكير بنتاجِه المسرحي وتشخيصِه، وبدرسِ تجربتِه الشعرية بجديةٍ تحليليةٍ وافية، واستكشافِ ما فيها من مواضعِ التميز، وهو الذي استطاعَ في مجموعاتِه الثماني أَنْ يُحقِّق لقصيدتِه موقعَها في تجربةِ الحداثةِ الشعرية في الخليج العربي، لما حضرَ فيها من تمهلٍ وانحيازٍ جماليٍّ إلى نثريةِ الحياة ومفارقاتِها. وكان نزوعُه الحداثيُّ موصولاً بثقافةٍ مكينةٍ في التراث، وبمعرفةٍ واسعةٍ بالموروثِ الشعبيِّ في الإمارات، ويُؤشِّر إِسهامُه في جمع حكاياتٍ شعبيةٍ إماراتيةٍ في كتاب «حصاة الصبر» (مثلاً) إلى هذا الجانب من مشاغلِه البحثيةِ والإبداعية.

أحمد راشد ثاني لؤلؤةٌ جميلةٌ في عنقود الشعر والثقافة في الإمارات، ونحسبُ أَنَّ إِبقاءَ وهجها حاضراً وبهياً مهمةٌ ملحةٌ على الوسط الثقافي المحلي، وهو الباقي دائماً في أَرواحنا وقلوبِنا المكلومة بفقدِه، غير أَنَّ مطرحَه سيظلُّ حاضراً كلما تقاطرنا، نحنُ أَصدقاؤه، إلى سهرةٍ أو لقاءٍ أو جلسةٍ، رحمه الله.

 

Email