عن بهجت أبو غربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أَنْ تسمعَ اسمَ بهجت أَبو غربية (1916- 2012)، فذلك يعني أَنْ تتزاحمَ قُدّامك مناقبُ شتّى اجتمعت في هذا الرجل الذي طوى، الخميس الماضي، قرناً ومضى، لا تبدأُ من النزاهةِ والثبات، ولا تنتهي عند العنادِ في الحقِّ والجسارة، وذلك كله وغيرُه من أَجل فلسطين. واستحقَّ الراحل الكبير لقبَ شيخِ مناضليها، وكانت في رحلتِه الكفاحيَّةِ لأَزيد من ثلاثةِ أَرباعِ قرنٍ عربيَّةَ العنوان، دائماً وأَبداً.

 وأَنْ يوصفَ هذا الرجل النادر بأَنَّه سنديانةُ فلسطين، فذلك من بعضِ ما يتزيَّن وصفٌ رائقٌ كهذا بحاملِه، ولم يسْعَ إِلى أَيٍّ منها، لما كان عليه من تواضعٍ وزهدٍ توازيا سمتيْن مضيئيْن في مسيرتِه مع عراكِه المديد في معاركِ الدفاع عن كل فلسطين، وفي حراستِه ذاكرتَها، وحمايتِها من أَيِّ رهاناتٍ سياسيةٍ قد تضيعُ حبةُ رملٍ أَو شتلةُ زيتونٍ فيها. تعصى على العدِّ محطاتُ نضال بهجت أَبو غربية، وجولاتُ قتاله الصهاينة، والإِصابات في بدنِه أَثناءها، والسجون التي خبَرها، والتشكيلات العسكرية الشعبية التي قادَها أَو أَسَّسها أَو انتسَبَ إِليها، والتكوينات والأَحزاب والتنظيمات التي كان فاعلاً فيها.

ولأَنه، رحمه الله، كان نهراً غزيراً من كل هذا العطاء، فمن الجديرِ أن تبقى سيرتُه الطيِّبة هذه حيَّةً في مداركِنا جميعاً،لا سيما الناشئةِ منا، وأَنْ لا يغيبَ أَيٌّ من تفاصيلِها عن سطور تاريخ فلسطين.

يقولُ الحديثُ النبويُّ الشريف "خيرُكم من طالَ عمرُه وحسنَ عملُه"، والخليليُّ المولود في خان يونس في قطاع غزة، والذي شب في القدس وووري الثرى في عمّان، بهجت أَبو غربية، من هؤلاءِ الأَخيار الذين أَنعم الله عليهم بطول العمر (96 عاماً)، ونذروا حياتَهم لأَحسن الأَعمال؛ حمل السلاح في ثورة 1936 في فلسطين، وشارك في معارك 1948، وكان فيها من المجاهدين الذين منعوا العصاباتِ الصهيونية من دخول البلدة القديمة في القدس واحتلالِها، ومن قادة جيش الجهاد المقدس، وقاتلَ مع الشهيدين عبد القادر الحسيني وإِبراهيم أَبو دية في معركتي القسطل والقطمون، وجُرح مرات.

 انتسب إِلى حزب البعث في 1949، وانتُخبَ، لاحقاً، عضواً في القيادةِ القطريةِ فيه حتى 1959، وشارك في النضالِ السريِّ له، وغادَره لاحقاً.

وشارك في تأْسيس منظمة التحرير الفلسطينية في 1964، وكان عضواً في أَول لجنةٍ تنفيذيةٍ فيها، وانتخبَ فيها ثلاثَ مرات، قبل أَنْ يتخلّى عن موقعِه فيها، وكان قد انضمَّ إِلى جبهةِ النضال الشعبي، وظلَّ عضواً في المجلسين الوطني والمركزي للمنظمة، واستقال، لاحقاً، منهما احتجاجاً على قبول المنظمة قرار مجلس الأَمن 242، وساهمَ قبل ذلك في تأْسيس جيش التحرير الفلسطيني وقوات التحرير الشعبية.

وفي التسعينيات، ترأَسَ اللجنة العربية الأُردنية لمواجهة الإِذعان والتطبيع... هذه بعضُ علاماتٍ منيرةٍ في حياة بهجت أَبو غربية، وكانت من تفاصيلِ بهاءٍ انطبعت به شخصيته التي قُيِّضَ لكاتب هذه السطور أَنْ يتملّى فيها في غيرِ مناسبة.

أَولُ الدروسِ الثمينةِ التي تُيَسِّرُها سيرةُ الفقيد الكبير، اقترانُ الفكرة بالعمل، وتحقُّق المبدئيّةِ في الممارسة، وتآخي الثباتِ على الحقِّ مع النضالِ الميدانيِّ من أَجله، وتنوع صيغ العطاءِ وتعبيراتِه العملية.

فقد عمل أَبو سامي في الصحافة والتعليم، مثلاً، وأَحبَّ الحياة، وكتبَ ودوَّن وشاركَ في ملتقياتٍ ومنتدياتٍ عديدة، وتواصلَ مع مختلف الأَجيال، وراهن كثيراً على الشباب، وظلَّ دائماً حريصاً على الجهرِ بمواقفِه، أَياً كانت أَكلافُها، فتحمَّلَ سجوناً وإِقصاءً في غير بلدٍ ومن غيرِ طرف.

كان، رحمه الله، نموذجاً باهراً في غير شأْنٍ ومسأَلة، وجاءَ طيِّباً منه أَنَّه وثَّقَ تجربتَه الكفاحيّة في كتابي مذكراتٍ منشوريْن، وفي أَحاديث تلفزيونية وصحفية، ويكون طيباً منّا أَنْ نحرسَ ذكراه الثريّة بالبديعِ والسامي، باستعادةِ هذه الروايةِ الإنسانيّةِ البهيّة، والتي تغسلُ أَرواحَنا بالنَّدى، وهي خالدةٌ إِنْ شاءَ الله.

Email