بعد تقرير المراقبين

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس طخَّاً على المراقبين العرب في سوريا، لا سمح الله، أَنْ نجهَرَ بتعجُّبنا من اعتذار اثنين وعشرين منهم عن إِكمال عملِهم لأََسبابٍ شخصية، على ما كشفَ رئيسُهم الجنرال محمد الدابي. وأَنْ نتعجَّبَ، أَيضاً، من طلبِه أَنْ لا تضمَّ بعثتهم، في شهر التمديد لها، متقدِّمين بالسِّن، وقد أَرادَ التزوَّد بمائةِ شابٍّ في الشهر الجديد. فالبديهيَّ أَنَّهم لم يكونوا ذاهبين للتبضُّع في سوق الحميدية في دمشق.

والتلذُّذ بتناول البوظة الشامية فيه، وإِنما من أَجلِ مهمَّةٍ صعبةٍ وشاقّة، موجزُها معاينةُ أَوضاعٍ عويصةٍ وحرجةٍ في زقاق إِدلب وحواري حمص وشوارع درعا، حيثُ رصاصٌ وقتلى وضحايا، عدا عن تقصّي أَحوال مساجين في مراكز اعتقالٍ غيرِ قليلة، والاستماعِ إِلى جرحى في مستشفياتٍ، قرأْنا غير مرةٍ، والله أَعلم، أَنَّ شبيحةً وعناصرَ أَمنٍ تختطفُ بعضَهم.

يزيدُ عجبُنا ذاك عجباً من اكتشافِ جامعةِ الدول العربية، بعد ثلاثةِ أَسابيع من نشر المراقبين في بلدٍ مُدمّى بموتٍ غزير، أَنَّ كثيرين منهم كانوا يحتاجون إِلى تدريبٍ من خبراءَ في الأُمم المتحدة. وتتضاعفُ متواليةُ العجب مع سؤالٍ عن أَسبابِ عدم توزيع تقرير الشهر الأَول لعمل البعثة على الصحافة، أَو أَقلُّه توفيرُه على شبكة الإنترنت، فلا يُكتفي بتسريباتٍ مجتزأَةٍ منه. وقد ذاعت توصياتٌ فيه طرحَها الدابي من المجلس الوزاري في جامعةِ الدول العربية، منها أَنْ يتزوَّدَ المراقبون بمناظير ميدانٍ ليليةٍ ونهارية، وبأَجهزة تصويرٍ حديثة، وستراتٍ واقيةٍ خفيفة.

يتحدَّثُ الجنرال الدابي عن قسوة الإِعلام على بعثة المراقبين، ويطلب دعماً سياسياً ومالياً وإعلامياً لها، في وقتٍ يُؤَشِّرُ بنفسِه إِلى أَنَّ من أَبرز المعوقات التي واجهت عملهم عدمُ قدرةِ بعضِهم على مواكبةِ العمل الصعب الذي يُعدُّ من صلبِ عملهم. ومن مفارقاتٍ أَنَّ الإِعلام السوري، كان قبل توقيع بروتوكول عمل المراقبين، يشتبه بهم بافتراضِهم عملاءَ لحلف الناتو والمخابرات الأَميريكية، وجواسيس كما مفتشي الأُمم المتحدة في العراق قبيل إِنهاءِ نظام صدام حسين، وبعد تقاطرهم إلى مطار دمشق، صار يحتفي بهم، ويُظهرهم على شاشةِ الفضائية السورية وهم يتحدثون إِلى سوريين عانوا من الإِرهابيين في العصابات المسلحة.

وحين يُفيدُ الدابي بأَنَّ مهمَّة أَعضاءِ البعثة تقتصر على رصدِ ما يُشاهدونه من قتلٍ وتدمير، فإِنَّ سؤالاً سيصيرُ عمّا يُراد أَنْ يرصدَه اثنان منهم في كنيسةٍ يخطبُ فيها المفتي أَحمد حسون، وقد شوهدا يستمعان إِليه على الشاشةِ نفسِها، وشوهد آخرون في حضرة رجال دين مسيحيين وعلماء ومشايخ من غير طائفة، ولا نظنُّ أَنَّ التثبت من غزارةِ الوحدةِ الوطنيةِ في سوريا نص عليه البروتوكول المتّفق عليه.

ثمَّة، إِذن، شواهد يسَّرها محمد الدابي نفسُه، تُسوِّغُ التشكيكَ في شموليَّةِ تقرير المراقبين واتساعِ صدقيته واتّصافِه بالدقَّة واكتمال الحقيقة، مضافا إليها احتفاءٌ وفيرٌ بهم في الإِعلام السوري، تلاه حماسُ دمشق للتمديدِ لهم. فاللوازمُ الناقصة، والمهمة، التي طلبَ الجنرال السوداني توفيرَها، عواملُ تُبرِّر استقبالَ تقرير يوم الأَحد الماضي بالقلق الذي أَشهرته المعارضةُ السورية.

يُقال هذا هنا، مع تسليمٍ بأَنَّ مبالغاتٍ إِعلاميةً مارستها فضائياتٌ متعاطفةٌ مع الثورة السورية، وبأَنَّ تضارباً وارداً في أَعداد المعتقلين والمفرج عنهم، وربما في أَعدادِ الضحايا والمصابين، غير أَنَّ ذلك كله، وغيرَه، لا ينزِعُ عن المحتوى العام للعنفِ المفرط، والشديدِ الفظاعة، صدقيَّةَ تصويرِه بالأَدوات الميسورة بين أَيدي أَبناءِ الثورةِ نفسِها.

وهي الثورةُ التي تُغطّي أَخبارَها بنفسِها، وتوثِّق عذاباتِها بنفسِها، بالهواتفِ النقالة والإِنترنت مثلاً، أَي بغيرِ كاميرات الفضائيات ذات الإِعلام القاسي، كما أَلمحَ الفريق محمد الدابي، في إِشارةٍ معلومةِ الوجهة، لا نظنُّها كانت على القدرِ الكافي من الإِقناع، تماما كما التقريرُ الذي ساهمَ في إِعدادِه مراقبون حالَ تقدُّمهم في السنِّ دون قيامِهم بواجبهم، على ما أَوضحَ الدابي مشكوراً.

Email