في مسأَلة البرادعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

للشغوفين بالنمائمِ والخراريفِ عند الحديث في السياسةِ، أَنْ يروا أَنَّ شعور محمد البرادعي باستحالِة فوزِه في انتخاباتِ الرئاسة المصرية هو ما دفعَه، السبت الماضي، إِلى إِعلانِ عزوفِه عن المنافسةِ فيها.

ولهم أَنْ يقولوا، أَيضاً، إنَّ الرجلَ استقرَّ على خيارِه بعد أَنْ عاين أَنصارُه محدوديَّةَ شعبيَّتِه في الجمهور المصري، سيّما وأَنّه محدودُ الخبرةِ في التواصل مع هذا الجمهور.

 في الوسع أَنْ يذهبَ الجدالُ مع هؤلاءِ إِلى الاتفاق معهم على أَنَّ حظوظ البرادعي في الفوزِ برئاسةِ مصر كانت ضعيفة، بعد أَنْ دلَّت نتائجُ انتخابات البرلمان على مزاجٍ إِسلاميٍّ، محافظٍ في أَهمِّ تنويعاتِه، لدى المصريين، سيّما في الأَرياف والقرى والمدن البعيدة، فيما البرادعي ليبراليُّ النزعةِ ويعتنقُ مقولةَ الديمقراطيةِ الحقَّةِ، وليس غيرها، هي الحلُّ الوحيدُ لمشكلاتِ مصر على غير صعيد، والوعاءُ الأَوجبُ أن يتداعى المصريون لبناء مداميكِه من أَجل تقدم بلدِهم ونهوضه تعليمياً وصناعياً وتنموياً.

ومن أَجل قيامته صاحبَ دورٍ مركزيٍّ في محيطِه، وفي الفضاءِ السياسي الدولي. نظنُّ المسألةُ هنا، أَيْ في عدم تبيُّن البرادعي أَنَّ مصر تخطو إِلى هذا الطرازِ من الديمقراطية المشتهاة، المسلحةِ بالعدالةِ الاجتماعيةِ كما ينبغي التذكير دائماً، وليست المسأَلةُ في ذلك المطرح عن منسوبِ شعبيّة البرادعي غيرِ الوفيرة.

صدوراً عن هذا التشخيص، يحسنُ أَنْ يأْخذَنا إِِعلانُ المسؤول الدولي الرفيع السابق «قنبلة» انسحابِه من المنافسةِ الانتخابية، على ما جرى وصفُها عن حق، إِلى البحثِ في مساحاتِ «الديمقراطية الحقّة» في مصر، بعد عامٍ على إِزاحةِ ثورتِها رأْسَ النظام السابق، والتيقُّنِ ما إِذا كانت هذه الثورة ماضيةً فعلاً في مسارِ بناءِ هذه الديمقراطية التي أَطلق البرادعي نقاشاً عنها، يُؤَكِّدُ عليها مضموناً جوهرياً في عمليةٍ سياسيةٍ واجتماعية، فلم يرَ أَنَّ مصر منخرطةٌ فيها تماماً.

ينكشفُ ظهر ائتلافاتٍ شبابيةٍ وقوىً ونخبٍ مثقفةٍ وفئاتٍ متنوعةٍ في مصر، في انتخابات الرئاسة التي يقترب استحقاقُها، بمغادرةِ رجلٍ استثنائيٍّ، اسمُه محمد البرادعي، مطبخَ المنافسة فيها. وتنكشفُ مصر نفسُها أَكثر في هذا الحدث الذي لم يُبالغ أَيمن نور حين اعتبرَه صدمةً كبرى، فتبدو في راهنِها عاريةً من إِشراقةٍ كانت شديدةَ الضرورةِ في راهنِها الملتبس والمقلق، وفي مستقبلِها الذي تتراكم أَماراتُ التشوُّشِ بشأْنِه، أَكثر من علاماتِ الإِنارة في طريقٍ واضحٍ نحو خيارِ الانتقالِ الديمقراطيِّ الحقيقي، والذي لا يمكنُ السير فيه بالأَدواتِ القديمةِ الموروثةِ من النظام السابق، على ما سوَّغ البرادعي قرارَه، الكارثيّ بحسبِ وصفٍ آخر.

هذا هو الأَمرُ الأَجدى بإِمعان النظرِ فيه والتملّي الجدّي في تفاصيلِه، بدل التلهي بالاطمئنانِ إِلى أَنَّ اعترافاً بهزيمةٍ مسبقةٍ كان وراءَ اتخاذ البرادعي قرارَه، وهو الرجلُ الذي لا شططَ في القولِ إِنّه أَحد آباءِ ثورة 25 يناير، وإحدى مفاجآت مصر العظيمة في التنوير السياسي، فضلاً عن أَنَّه الظاهرةُ الأَكثرُ إِدهاشاً، في العالم ربما، بالنظرِ إِلى خلوِّ سيرتِه من مشاركةٍ في مظاهرة، ومن أَيِّ انتقاد لأَي نظامٍ حاكم، حتى إِذا انتهت محطاتُه في العملِ الدبلوماسيِّ المصري، ثم الدولي شديدِ التخصُّص، فاجأَنا بروحٍ كاشفةٍ لديه، وبرؤيةٍ عميقة الغور لراهنِ مصر ومستقبلِها، وقبل ذلك وبعدَه، بمواجهتِه نظام حسني مبارك بأَرفع الوسائلِ المدنية رقيّاً، حتى إِذا خُلع المذكور، ظلَّ يُفاجِئنا بإِضاءاتِه خريطةَ طريقٍ لمصر أُخرى، غير التي أَخطأَ المجلس العسكري الحاكم في تبنّيها، وبذلك، حافظ البرادعي على موقعِه الذي تأَهلَّ له في أَقلَّ من ثلاث سنوات، في الراهنِ المصري العام، وهو موقعُ الداعية السياسي النظيف، فكان قامةً وطنيةً، مدركةً لقيمة مصر ومكانتِها، وكانَ ضميراً محترماً.

ولأَنَّ هذه من بعضِ شمائلِه، فإنَّ المأْمولَ منه أَنْ يواصلَ فاعليَّته، فتكسبه مصر في موقعِ المعارض اليقظ، سيما وأَنّه غيرُ حريصٍ على منصبٍ عابر.

Email